بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الإغراق في علم البديع

الإغراق

ذكرنا فيما سبق أن المبالغة المقبولة عند السكاكي تنحصر في التبليغ والإغراق والغلو. فإذا كان الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة فهو التبليغ، وإذا كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق، وإن كان ممتنعا عقلا وعادة فهو الغلو.

كذلك ذكرنا أن السكاكي عرف المبالغة المقبولة بقوله: «هي أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة والضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا».
وإذا تأملنا هذا التعريف وجدنا أنه ينطبق على نوعين فقط من أنواع المبالغة عند السكاكي هما: الغلو والإغراق. ذلك لأن الغلو هو المستحيل عقلا وعادة، والإغراق هو المستبعد وقوعه عادة لا عقلا.
وعلى ذلك فالإغراق في اصطلاح البديعيين: هو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة، أو بعبارة أخرى: هو الإفراط في وصف الشيء بما يمكن عقلا ويستبعد وقوعه عادة. ومن أمثلة ذلك قول عمير التغلبي السابق:



ونكرم جارنا ما دام فينا  ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإكرامهم للجار مدة إقامته بينهم من الأخلاق الجميلة الموصوفة، ومدّه بالكرم عند رحيله وجعل هذا الكرم يتبعه ويشمله حيث كان وفي كل جهة يميل إليها هو الإغراق هنا. وهذا أمر ممتنع عادة وإن كان غير ممتنع عقلا.
وكل من الإغراق والغلو لا يعدّ من محاسن القول وبديع المعنى إلا إذا دخل عليه أو اقترن به ما يقربه إلى الصحة والقبول، نحو «قد» للاحتمال، و «لو» و «لولا» للامتناع، و «كاد» للمقاربة، وما أشبه ذلك من أدوات التقريب.
ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في القرآن الكريم ولا في الكلام الفصيح إلا بما يخرجه من باب الاستبعاد والاستحالة ويدخله في باب الإمكان، نحو: كاد ولو وما يجري مجراهما.
ومن أمثلة ذلك في الإغراق قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ، إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار، ولكنه يمتنع عادة. والذي زاد وجه الإغراق هنا جمالا هو تقريبه إلى الصحة بلفظة «يكاد»، واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة، فقلبت من الامتناع إلى الإمكان.
ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلفظة «لو» قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم  قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو «هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق» على حد قول ابن حجة الحموي.
ومما استشهد به أيضا على نوع الإغراق بلفظة «لو» التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل:
ولو أن ما بي من جوى وصبابة  على جمل لم يدخل النار كافر
وقبل الحديث عن الإغراق في هذا البيت نذكر أن فيه نظرا من طرف خفي إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فالجمل له معنيان: الذكر من الإبل والحبل الغليظ، وسم الخياط: ثقب الإبرة.
فالمعنى هنا أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها لا تفتح لهم أبواب السماء، أي لا تقبل دعواتهم ولا أعمالهم، ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل بأي معنى من معنييه السابقين في ثقب الإبرة. وبما أن دخول الجمل المعروف أو الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الضيق الصغير أمر بعيد فكذلك دخول هؤلاء المكذبين بآيات الله الجنة أمر مستبعد.
ولهذا المعنى نظر الشاعر في البيت السابق، فهو يريد أن يقول: لو كان ما به من الحب بجمل لأصابه النحول والضمور والهزال إلى حد يمكّنه من الدخول في سم الخياط، ولو تحقق دخول الجمل في سم الخياط لما بقي في النار كافر لزوال المانع لهم من دخول الجنة.
ودخول الجمل في سم الخياط لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة. فإن الله جلّت قدرته إذا شاء وسّع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل، وإذا شاء رقق الجمل حتى يصير كالخيط الرفيع فيدخل في سم الخياط. ومن ذلك يتبين أن الأمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة، وهذا غاية في الإغراق.
...

ومما استشهدوا به على الإغراق بغير أداة من أدوات التقريب قول امرئ القيس في وصف أنفاس صاحبته عند النهوض من النوم:
كأن المدام وصوب الغمام  وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ...  إذا غرد الطائر المستحر (1)
__________
(1) المدام: الخمر يدام على شربها أو التي أديمت في دنها، وصوب الغمام: مطر السحاب، وريح الخزامى: رائحة هذا النبت الطيب الريح، ونشر القطر بضم القاف والطاء:

فامرؤ القيس يصف طيب رائحة فم صاحبته سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم بأنه شبيه بطيب الرائحة المنبعثة من روائح الخمر المشوبة بالماء النقي والخزامى والبخور مجتمعة. فإذا كانت هذه رائحة ثغرها عند نهوضها مبكرة من النوم، فكيف تظن رائحة ثغرها في هوادي الليل رائحة العود الذي يتبخر به، يعل به برد أنيابها: يسقى به ثناياها الباردة مرة بعد مرة، الطائر المستحر: المصوت في وقت السحر.
وأوائله؟. فالإغراق في تشبيه طيب رائحة فم امرأة عند تغير الأفواه بعد النوم بالرائحة الناشئة من اختلاط رائحة الخمر المشوبة بالماء النقي برائحة الخزامى والبخور- أمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة.
ومن الإغراق في الوصف أيضا بغير أداة تقريب قول الشاعر:
قد سمعتم أنينه من بعيد  فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
فوصف الشخص بأنه لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه إغراق في الوصف ممتنع عادة، لكنه غير مستحيل عقلا.
ونظير هذا المعنى قول ابن حجة الحموي:
وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى  وها أنا اليوم في الأوهام تخييل
ونظيره أيضا قول شرف الدين عمر بن الفارض:
كأني هلال الشك لولا تأوهي  خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي
ومنه قول صفي الدين الحلي في وصف معترك:
في معرك لا تثير الخيل عثيره  مما تروى المواضي تربه بدم
فوصف المكان الذي يعترك فيه الفرسان بأن الخيل التي تحملهم وتعدو بهم هنا وهناك لا تثير غبارا فوقها لكثرة ما ارتوى به تراب المعترك من الدماء التي أراقتها السيوف المواضي- أقول هذا الوصف فيه إغراق شديد، إذ لم تجر العادة أن ترتوي أرض معركة بالدم إلى هذا الحد، لكنه أمر غير مستحيل عقلا.
...

من كل ما تقدم يتضح أن الإغراق، وهو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة نوعان: إغراق في الوصف تدخل عليه أداة تقربه إلى الصحة والقبول، وإغراق في الوصف مجرد من أدوات التقريب.
ولا شك أن المقارنة بين النوعين وعلى ضوء الشواهد السابقة تظهر أن الإغراق المقترن بأداة التقريب هو الأبلغ في وضوح الدلالة على المعنى وفي الإضافة إليه معنويا بما يكسبه رونقا وبهاء وقبولا.
ولكن على الرغم من كل شيء يبقى الإغراق بنوعيه فنا قائما بذاته من فنون البديع المعنوية.

الكتاب: علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة

  

0 Response to "الإغراق في علم البديع"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel