بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

أنواع الإنشاء الطلبيّ أولا- الأمر

أنواع الإنشاء الطلبيّأولا- الأمر

وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. ويقصد بالاستعلاء أن ينظر الآمر لنفسه على أنه أعلى منزلة ممن يخاطبه أو يوجه الأمر إليه، سواء أكان أعلى منزلة منه في الواقع أم لا.
وللأمر أربع صيغ تنوب كل منها مناب الأخرى في طلب أي فعل من الأفعال على وجه الاستعلاء والإلزام. وهذه هي:
أ- فعل الأمر: نحو قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ* وقوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها.
ونحو قول الشاعر:
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ولا يهلك المعروف من هو فاعله
وقول شاعر آخر يطلب من شباب العروبة أن يعملوا لمجد قومهم:
وانشر لقومك ما انطوى من مجدهم وأعد فخار جدودك القدماء
هم ورثوك المجد أبيض زاهرا فاحمله مثل الشمس للأبناء
ب- المضارع المقرون بلام الأمر: نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
ونحو قول أبي الطيب المتنبي في مدح سيف الدولة:
كذا فليسر من طلب الأعادي ومثل سراك فليكن الطلاب (1)
وقول أبي تمام راثيا بني حميد الطوسي:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
ج- اسم فعل الأمر: ومنه «عليكم» اسم فعل أمر بمعنى «الزموا» نحو قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، ونحو قول الأخطل التغلبي:
فعليك بالحجاج لا تعدل به أحدا إذا نزلت عليك أمور
ومنه «بله» بمعنى «دع» كقول الشاعر في صفة السيوف:
تذر الجماجم ضاحيا هاماتها بله الأكفّ كأنها لم تخلق
ومنه «رويده» بمعنى: أمهله، كقول الشاعر:
رويد الذي محضته الود صافيا إذا ما هفا حتى يظل أخا لكا
د- المصدر النائب عن فعل الأمر: نحو قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً* بمعنى وأحسنوا إلى الوالدين إحسانا، ونحو قوله تعالى أيضا:
وإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا* فضرب الرقاب (2)، ونحو: أيها القوم استجابة لصوت الواجب، وتلبية لنداء الضمير، وإقداما في مواقف الشجاعة، ودفاعا عن الوطن بكل ما أوتيتم من قوة.
__________
(1) السرى: السير ليلا.
(2) أصله فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف فعل الأمر وقدم المصدر فناب عنه مضافا إلى المفعول، وضرب الرقاب عبارة عن القتل، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته.

ونحو قول قطري بن الفجاءة:
فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع
...

خروج الأمر عن معناه الأصلي:

ولكن الأمر قد يخرج عن معناه الحقيقي، وهو طلب الفعل من الأعلى للأدنى على وجه الوجوب والإلزام، للدلالة على معان أخرى يحتملها لفظ الأمر وتستفاد من السياق وقرائن الأحوال. ومن هذه المعاني:
1 - الدعاء: وهو الطلب على سبيل الاستغاثة والعون والتضرع والعفو والرحمة وما أشبه ذلك. ويسميه ابن فارس «المسألة»، وهو يكون بكل صيغة للأمر يخاطب بها الأدنى من هو أعلى منه منزلة وشأنا، نحو قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ.
ونحو قول المتنبي مخاطبا سيف الدولة:
أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك ولا تعطين الناس ما أنا قائل
وقوله:
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما بشعري أتاك المادحون مردّدا
ودع كل صوت غير صوتي فإنما أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
2 - الالتماس: وهو طلب الفعل الصادر عن الأنداد والنظراء المتساوين قدرا ومنزلة، نحو قول الشاعر محمود سامي البارودي:
يا نديمي من «سرنديب» كفّا عن ملامي وخلياني لما بي
يا خليليّ خلّياني وما بي أو أعيدا إليّ عهد الشباب
ونحو قول شاعر يوجه الخطاب إلى صاحبته:
يا مزاجا من رقة الزهر والفج ر ومن روعة الضحى والمساء
بلبليّ التغريد صوتك يسري في خيالي منوّرا كالرجاء
شجعيني على الجهاد تريني أنطق الصخر أرتقي للسماء
علميني معنى الطلاقة والخلد مقيما يا ربّة الإيحاء
طهّريني بفيض قدسك ما اسطع ت، وألقي عليّ ثوب الرضاء
وارفعيني إلى سمائك أنشد لك شعرا يموج موج الضياء
وأفيضي عليّ بالوحي أبدع كلّ لحن معبّر عن وفائي
فالأمر في كل هذه الأبيات قد خرج عن معناه الحقيقي إلى الالتماس لأن الشاعر وصاحبته رفيقان يستويان قدرا ومنزلة.
3 - التمني: وهو طلب الأمر المحبوب الذي يرجى وقوعه إما لكونه مستحيلا، وإما لكونه ممكنا غير مطموع في نيله، نحو قول عنترة العبسيّ:
يا دار عبلة بالجواء تكلّمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي (1)
__________
(1) عبلة: صاحبة الشاعر. والجواء: واد في ديار بني عبس، وعمي صباحا: انعمي.

وقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح، وما الإصباح منك بأمثل
وقول أبي العلاء المعري:
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
4 - النصح والإرشاد: وهو الطلب الذي لا تكليف ولا إلزام فيه، وإنما هو طلب يحمل بين طيّاته معنى النصيحة والموعظة والإرشاد، نحو قول أحد الحكماء لابنه: «يا بنيّ استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر». ومنه قول الشاعر محمود سامي البارودي:
فانهض إلى صهوات المجد معتليا فالباز لم يأو إلّا عالي القلل (1)
وكن على حذر تسلم، فربّ فتى ألقى به الأمن بين اليأس والوجل
ودع من الأمر أدناه لأبعده في لجة البحر ما يغني عن الوشل (2)
واخش النميمة واعلم أنّ صاحبها يصليك من حرّها نارا بلا شعل
ومن الأمر الذي خرج إلى النصح والإرشاد أيضا الأبيات التالية:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما، وإن كنت من أهل المشورات
واخفض جناحك إن منحت إمارة وارغب بنفسك عن ردى اللذات
فاربأ بنفسك أن يضيمك ضائم وافعل كفعل الفتية القدراء
5 - التخيير: وهو أن يطلب من المخاطب أن يختار بين أمرين أو أكثر، مع امتناع الجمع بين الأمرين أو الأمور التي يطلب إليه أن يختار بينها، نحو: «تزوج بثينة أو أختها»؛ فالمخاطب هنا مخيّر بين زواج بثينة أو أختها، ولكن ليس له أن يجمع بينهما.
ومن هذا الأمر الذي يستفاد منه التخيير قول بشار بن برد:
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه (3)
وقول مهيار الديلميّ:
وعش أمّا قرين أخ وفيّ أمين الغيب أو عيش الوحاد
__________
(1) الباز والبازي: الصقر وهو من أشد الحيوانات زهوا، والقلل: جمع قلة، وهي قمة الجبل.
(2) الوشل بتحريك الواو والشين: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة قليلا قليلا من غير اتصال.
(3) مقارف الذنب: مرتكبه.

6 - الإباحة: وتكون الإباحة حيث يتوهم المخاطب أن الفعل محظور عليه، فيكون الأمر إذنا له بالفعل، ولا حرج عليه في الترك، وذلك نحو
قوله تعالى في شأن الصائمين: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.
ومن الأمر الذي خرج المعنى فيه إلى الإباحة قول أبي فراس معاتبا سيف الدولة من قصيدة بعث بها إليه وهو أسير في بلاد الروم:
فدت نفسي الأمير، كأنّ حظي وقربي عنده ما دام قرب
فلما حالت الأعداء دوني وأصبح بيننا بحر و «درب»
ظللت تبدل الأقوال بعدي ويبلغني اغتيابك ما يغب (1)
فقل ما شئت فيّ فلي لسان مليء بالثناء عليك رطب
وعاملني بإنصاف وظلم تجدني في الجميع كما تحب
__________
(1) ما يغب: ما ينقطع، بمعنى اغتيابك لا يتأخر عني يوما بل يصل إلي كل يوم.

7 - التعجيز: وهو مطالبة المخاطب بعمل لا يقوى عليه، إظهارا لعجزه وضعفه وعدم قدرته، وذلك من قبيل التحدي، نحو قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ، ونحو قوله تعالى في شأن من يرتابون في نزول القرآن على الرسول:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فليس المراد طلب إتيانهم بسورة من مثل القرآن الكريم لأنه محال عليهم أن يأتوا بسورة من نوعه، وإنما المراد هو تحديهم وإظهار عجزهم.
ومن الأمر الذي خرج إلى التعجيز قول الطغرائي:
حب السلامة يثني همّ صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا في الأرض، أو سلّما في الجو فاعتزل
وقول آخر:
أروني بخيلا طال عمرا ببخله وهاتوا كريما مات من كثرة البذل
8 - التهديد: ويكون باستعمال صيغة الأمر من جانب المتكلم في مقام عدم الرضا منه بقيام المخاطب بفعل ما أمر به تخويفا وتحذيرا له.
ويسميه ابن فارس «الوعيد»، نحو قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فالأمر هنا موجه لمن يلحدون في آيات الله، وكقوله أيضا:
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ،* وقوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ.
ومن أمثلته شعرا:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
9 - التسوية: وتكون في مقام يتوهم فيه أن أحد الشيئين أرجح من الآخر، نحو قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ فقد يظن أو يتوهم أن الإنفاق طوعا من جانب المأمورين هنا أرجح في القبول من الإنفاق كرها، ولذلك سوّي بينهما في عدم القبول. ونحو قوله تعالى أيضا:
اصبروا أَوْ لا تَصْبِرُوا، فليس المراد في الآيتين الأمر بالإنفاق أو الصبر، وإنما المراد هو التسوية بين الأمرين.
ومثله من الشعر قول المتنبي:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
فالمعيشة العزيزة والموت الكريم كلاهما سواء، ولا أحد من الأمرين يرجح الآخر.
10 - الإهانة والتحقير: ويكون بتوجيه الأمر إلى المخاطب بقصد استصغاره والإقلال من شأنه والإزراء به وتبكيته، نحو قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقوله تعالى على لسان موسى مخاطبا السحرة:
أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ*.
ومثله من الشعر قول جرير في هجاء الفرزدق:
خذوا كحلا ومجمرة وعطرا فلستم يا فرزدق بالرجال
وشمّوا ريح عيبتكم فلستم بأصحاب العناق ولا النزال (1)
__________
(1) العيبة بفتح العين: وعاء من أدم يكون فيه المتاع.

تلك أهم المعاني التي يتحملها لفظ الأمر ويخرج عن معناه الأصليّ للدلالة عليها، ولكن ابن فارس قد ذكر في كتابه الصاحبي بعض معان أخرى يتحملها لفظ الأمر وإن كانت قليلة الاستعمال، وفيما يلي إشارة إليها:
1 - التكوين: ويسميها بعض البلاغيين «التسخير»، وذلك حيث يكون المأمور مسخرا منقادا لما أمر به، نحو قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ،* أي صاغرين مطرودين، فما أمروا به، وهو أن يكونوا قردة، لم يكن في مقدورهم أن يفعلوه ولكنهم وجدوا قدرة الله قد تسلطت عليهم فحولتهم من أناسيّ إلى قردة دون أن يكون لهم يد فيما حلّ بهم. وذلك هو معنى التكوين والتسخير.
2 - التلهيف أو التحسير: كقول القائل: «مت بغيظك، ومت بدائك» ونحو قوله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، وكما قال جرير:
موتوا من الغيظ غمّا في جزيرتكم لن تقطعوا بطن واد دونه مضر
3 - التعجب: نحو قوله جل ثناؤه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ.
وقول الشاعر:
أحسس بها خلّة لو أنها صدقت موعودها، ولو أنّ النصح مقبول
4 - الندب: بأن تكون صيغة الفعل أمرا ومعناه الندب، بمعنى أن المخاطب في حل من فعله أو عدم فعله، نحو قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ.
وقول شاعر: «فقلت لراعيها انتشر وتبقّل (1)».
__________
(1) تبقل: التمس البقل للماشية واطلبه. والبقل من النبات «بفتح الباء وسكون القاف»: ما ينبت في بزره ولا ينبت في أرومة ثابتة.

5 - التسليم: حيث يكون اللفظ أمرا والمعنى تسليم وتفويض بأن يصنع ما يشاء، نحو قوله تعالى: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي اصنع ما أنت صانع، وكقوله تعالى: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ؛ أي اعملوا ما أنتم عاملون.
6 - الوجوب: وذلك بأن يكون اللفظ أمرا والمعنى الوجوب، نحو قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ*.
7 - الخبر: وقد يكون اللفظ أمرا والمعنى خبر، نحو قوله تعالى:
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً، فالمعنى أنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا.

الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة


0 Response to "أنواع الإنشاء الطلبيّ أولا- الأمر"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel