بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الانشاء في اللغة العربية الانشاء في البلاغة الانشاء

في البحث السابق عرضنا للخبر فاستوفينا القول عنه من حيث مفهومه، وأضربه، وأغراضه الأصلية، ومؤكداته، وأغراضه الأخرى التي يحتملها لفظه. والآن ننتقل إلى قسيم الخبر، أو إلى القسم الثاني من الكلام، وهو «الإنشاء» فنفصل القول فيه.

وإذا كان الإنشاء قسيم الخبر، وكان الخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب، فإن الإنشاء إذن هو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته، وذلك لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق به وجود خارجي يطابقه أو لا يطابقه.
فالمعري مثلا عند ما يقول:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى إني أخاف عليكم أن تلتقوا
قد استعمل أحد أساليب الإنشاء وهو أسلوب النهي في قوله: «لا تظلموا الموتى». ونحن لا يمكننا هنا أن نقول إن المعري صادق أو كاذب في نهيه عن ظلم الموتى، وذلك لأنه لا يعلمنا بحصول شيء أو عدم حصوله، وليس لمدلول لفظه قبل النطق به وجود خارجي يمكن أن يقارن به، فإن طابقه قيل: إنه صادق، أو خالفه قيل: إنه كاذب.
ومثل هذا القول ينطبق على سائر أساليب الإنشاء من أمر واستفهام وتمن ونداء، فليس لمدلول أي لفظ منها قبل النطق به وجود خارجي يعرض عليه مدلوله ويقارن به، فإن طابقه قيل: إنه صادق، أو خالفه قيل: إنه كاذب.
وعدم احتمال الأسلوب الإنشائي للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الأسلوب بغض النظر عما يستلزمه، وإلا فإن كل أسلوب إنشائي يستلزم خبرا يحتمل الصدق والكذب.
فقول القائل: «اجتهد» يستلزم خبرا هو «أنا طالب منك الاجتهاد»، وقوله: «لا تكسل» يستلزم خبرا هو: «أنا طالب منك عدم الكسل» وهكذا ...
فالخبر الذي يستلزمه الأسلوب الإنشائي ليس مقصودا ولا منظورا إليه، وإنما المقصود والمنظور إليه هو ذات الأسلوب الإنشائي، وبذلك يكون عدم احتمال الإنشاء الصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الإنشاء.

أقسام الإنشاء:

والإنشاء قسمان: طلبي وغير طلبي.

أ- فالإنشاء الطلبي: هو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب. وهو خمسة أنواع على الوجه التالي:

1 - الأمر: نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا.
2 - النهي: نحو قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.
3 - الاستفهام: نحو قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟
4 - التمني: نحو قوله تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.
5 - النداء: نحو قوله تعالى: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا.
هذه هي أساليب الإنشاء الطلبي الخمسة، وكل واحد منها لا يحتمل صدقا ولا كذبا، وإنما يطلب به حصول به شيء لم يكن حاصلا وقت الطلب، ولذلك يسمى الإنشاء فيها طلبيا.
ب- أما الإنشاء غير الطلبيّ: فهو ما لا يستدعي مطلوبا. وله أساليب وصيغ كثيرة منها:

1 - صيغ المدح والذم من مثل: نعم وبئس، وحبذا ولا حبذا.

وفيما يلي أمثله لهذه الصيغ:
قال زهير:
نعم امرأ هرم لم تعر نائبة إلا وكان لمرتاع لها وزرا
وقال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ.
وقال حرير:
يا حبذا جبل الريّان من جبل وحبذا ساكن الريّان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا
وقال شاعر:
ألا حبذا عاذري في الهوى ولا حبذا العاذل الجاهل

2 - التعجب: وهو تفضيل شخص من الأشخاص أو غيره على أضرابه في وصف من الأوصاف. والتعجب يأتي قياسيا بصيغتين: «ما أفعله» و «أفعل به».

فمن الصيغة الأولى قول شقران الهزيمي:
أولئك قوم بارك الله فيهم على كل حال، ما أعف وأكرما!
ومن الصيغة الثانية: قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا.

3 - القسم: ويكون بأحرف ثلاثة تجر ما بعدها وهي «الباء، والواو والتاء»، كما يكون بالفعل «أقسم» أو ما في معناه من مثل «أحلف».

«فالباء» هي الأصل في أحرف القسم الثلاثة، وهي تدخل على كل مقسم به، سواء أكان اسما ظاهرا أو ضميرا، نحو «أقسم بالله» و «أقسم بك».
و «الواو» فرع عن الباء، وتدخل على الاسم الظاهر فقط، نحو قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى.
و «التاء» فرع من الواو، بمعنى أنها لا تدخل على كل الأسماء الظاهرة، وإنما تدخل على اسم الله تعالى فقط، نحو قوله تعالى: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
ومن صيغ القسم التي ترد كثيرا في الأساليب العربية «لعمر» مضافة إلى اسم ظاهر أو ضمير مثل «لعمر الله» و «لعمرك» والتقدير: لعمر الله، ولعمرك قسمي أو يميني أو ما أحلف به، وذلك نحو قول معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
وقول ابن الرومي:
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة إذا زال عن نفس البصير غطاؤها
وكيف بقاء العيش فيها وإنما ينال بأسباب الفناء بقاؤها؟

4 - الرجاء: ويكون بحرف واحد هو «لعلّ»، وبثلاثة أفعال هي:

عسى، وحرى، واخلولق.
و «لعل» التي تعد من صيغ الإنشاء غير الطلبي هي التي تفيد الرجاء، نحو قول ذي الرمّة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة من الوجد أو يشفي شجيّ البلابل (1)
أما «لعل» التي تكون بمعنى «كي» نحو قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*، ولَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*، ولَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أي كي تتقوا، وكي تتذكروا، وكي يتذكر، وكذلك «لعل» التي بمعنى «ظنّ» نحو قول امرئ القيس:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولنّ أبؤسا
فإن «لعل» في هاتين الحالين لا تفيد الرجاء، وبالتالي لا تعد من صيغ الإنشاء غير الطلبي.
ومن أمثلة أفعال الرجاء قوله تعالى: عسى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وقول الشاعر:
عسى فرج يأتي به الله إنه له كلّ يوم في خليقته أمر
وقول الأعشى:
إن يقل هنّ من بني عبد شمس فحرى أن يكون ذاك، وكانا
ونحو «اخلوقت السماء أن تمطر» بمعنى «عسى».
__________
(1) الشجي: الحزين، والبلابل: جمع بلبال وهو الهم ووسواس الصدر. والمراد بشجي البلابل المحزون الذي امتلأ صدره حزنا وهما.

5 - صيغ العقود: من نحو قولك: بعت، واشتريت، ووهبت، وقولك لمن أوجب لك الزواج «قبلت هذا الزواج».

والفرق بين الإنشاء الطلبي وغير الطلبي، أن الإنشاء الطلبي هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه، فإذا أمرت الأم ولدها قائلة: «اغسل يديك وفمك قبل الأكل وبعده» فإن لفظ الأمر «اغسل» قد سبق إلى الوجود قبل وجود معناه، أي قبل قيام المأمور، بتنفيذ ما أمر به وهو «غسل اليدين والفم». ومن هنا قيل إن الإنشاء الطلبي هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه، أو هو ما يسبق وجود لفظه على وجود معناه.
أما الإنشاء غير الطلبي فهو ما يقترن فيه الوجودان، بمعنى أن يتحقق وجود معناه في الوقت الذي يتحقق فيه وجود لفظه، أي في الوقت الذي يتم اللفظ به. فإذا قال شخص لآخر زوجتك ابنتي، فقال الآخر: «قبلت هذا الزواج» فإن معنى الزواج أو وجوده يتحقق في وقت التلفظ بكلمة القبول.
والإنشاء غير الطلبي ليس من مباحث علم المعاني، وذلك لقلة الأغراض البلاغية التي تتعلق به من ناحية، ولأن أكثر أنواعه في الأصل أخبار نقلت إلى معنى الإنشاء من ناحية أخرى.
أما الإنشاء الذي هو موضع اهتمام البلاغيين، لاختصاصه بكثير من الدلالات البلاغية فهو «الإنشاء الطلبيّ» والذي ننتقل الآن لدراسته بشيء من التفصيل.
...

الإنشاء الطلبي

عرفنا مما سبق أن الإنشاء قسيم الخبر، وإذا كان الخبر هو كل كلام يحتمل الصدق والكذب، فإن الإنشاء على عكسه هو ما لا يحتمل الصدق والكذب من الكلام.
وعلى حد تعريف البلاغيين هو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل في وقت الطلب، أو هو كما يقولون بعبارة أخرى: ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه.
وأهم أنواع الإنشاء الطلبيّ، كما ذكرنا آنفا، خمسة: «الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والنداء». نقول ذلك لأن من أنواع الإنشاء الطلبيّ أيضا «العرض والتحضيض (1)»، ولكن الأنواع الخمسة الأولى أكثر استعمالا وحملا لشتى الدلالات واللطائف البلاغية ولذلك نقصر الحديث عليها.

__________
(1) «العرض» بفتح العين وسكون الراء، وأداته «ألا» بتخفيف اللام، و «التحضيض» أداته  = «هلا» بتشديد اللام، ويجمعهما التنبيه على الفعل، إلا أن في التحضيض زيادة توكيد وحث. وبين العرض والتحضيض اجتماع وافتراق: فهما يجتمعان في أن كل واحد منهما طلب، على معنى أن المتكلم طالب من المخاطب أن يحدث الفعل الذي بعد أداة العرض والتحضيض، وهما يختلفان في أن العرض طلب مع لين ورفق، والتحضيض مع حث وإزعاج، ولكل منهما مواضع تليق به. فمثال العرض قول الشاعر:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدثوك، فما راء كمن سمعا؟
ويأتي التحضيض في مثل قول عبيد بن الأبرص الأسدي ردا على امرئ القيس عند ما هدد وأنذر قبيلة عبيد لقتلها حجرا والده قال عبيد بن الأبرص:
يا ذا المخوفنا بقت ل أبيه إذلالا وحينا
هلا على حجر بن أم قطام تبكي لا علينا؟
هلا سألت جموع كن دة يوم ولوا: أين أينا؟

الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة


0 Response to "الانشاء في اللغة العربية الانشاء في البلاغة الانشاء"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel