بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

المحسنات البديعية اللفظية الجناس

المحسنات البديعية اللفظية الجناس

الجناس من فنون البديع اللفظية. ومن أوائل من فطنوا إليه عبد الله بن المعتز، فقد عده في كتابه ثاني أبواب البديع الخمسة الكبرى عنده وعرفه ومثل للحسن والمعيب منه بأمثلة شتى.

وهو يعرفه بقوله: «التجنيس أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر وكلام، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها».
فمفهوم الجناس عند ابن المعتز مقصور كما نرى على تشابه الكلمات في تأليف حروفها، من غير إفصاح عما إذا كان هذا التشابه يمتد إلى معاني الكلمات المتشابهة الحروف أم لا.
ولكن لعل فيما ذكره من تعريف الخليل بن أحمد للجنس ما يوضح هذا الأمر. قال الخليل: «الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو، فمنه ما تكون الكلمة تجانس أخرى في تأليف حروفها ومعناها ويشتق منها مثل قول الشاعر:
يوم خلجت على الخليج نفوسهم ..» (1).

__________
(1) كتاب البديع ص 25.

أو يكون تجانسها في تأليف الحروف دون المعنى مثل قوله تعالى:
«وأسلمت مع سليمان لرب العالمين» (1).
__________
(1) خلجت نفوسهم: طعنتها بالرمح.

فإن صح الاستنباط من هذا التعريف كان مفهوم الجناس عند الخليل بالأصالة وابن المعتز بالتبعية مفهوما عاما يشمل الكلمات المتجانسة الحروف سواء تجانست معنى أم اختلفت.
والواقع أن الجناس من أكثر فنون البديع التي تصرف فيها العلماء من أرباب هذه الصناعة، فقد ألفوا فيه كتبا شتى، وجعلوه أبوابا متعددة واختلفوا في ذلك، وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض. ومن هؤلاء ابن المعتز السابق الذكر، وقدامة بن جعفر الكاتب، والقاضي الجرجاني، والحاتمي وغيرهم.
...

ومن العلماء من يسمي هذا الفن من البديع اللفظي تجنيسا، ومن يسميه مجانسا، ومن يسميه جناسا، أسماء مختلفة والمسمى واحد. وسبب هذه التسمية راجع إلى أن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد.
وحقيقة الجناس عند ابن الأثير أن يكون اللفظ واحدا والمعنى مختلفا، وذلك يعني أنه هو اللفظ المشترك، وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء.
وعلى هذا فالجناس هو: تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى. وهذان اللفظان المتشابهان نطقا المختلفان معنى يسميان «ركني الجناس». ولا يشترط في الجناس تشابه جميع الحروف، بل يكفي في التشابه ما نعرف به المجانسة.
أقسام الجناس
والجناس ينقسم قسمين: تام وغير تام، فالجناس التام: هو ما اتفق فيه اللفظان في أربعة أمور هي: أنواع الحروف، وأعدادها، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها. وهذا هو أكمل أنواع الجناس إبداعا وأسماها رتبة.

أقسام الجناس التام:
وهذا النوع من الجناس ينقسم بدوره ثلاثة أقسام هي: المماثل، والمستوفى بفتح الفاء، وجناس التركيب. وفيما يلي بيان كل ذلك مفصلا وموضحا بالأمثلة.
1 - الجناس المماثل: وهو ما كان ركناه أي لفظاه من نوع واحد من أنواع الكلمة، بمعنى أن يكونا اسمين، أو فعلين، أو حرفين.
فمن أمثلة الجناس المماثل بين «اسمين» قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.
فالجناس هنا بين اسمين متماثلين في كل شيء هما السَّاعَةُ وساعَةٍ الأول بمعنى القيامة، والثاني بمعنى مطلق الوقت.
ومثله قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. الْأَبْصارِ الأولى جمع «بصر» وهو حاسة الرؤية، والْأَبْصارِ الثانية جمع «بصر» وهو العلم، فأولو الأبصار: أصحاب العلم.
ومنه شعرا قول أبي نواس:
عباس عباس إذا احتدم الوغى  والفضل فضل والربيع ربيع
ومنه قول المعري:
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة  فقلت: لا هوّمت أجفان أجفانا
فأجفان الأولى اسم، وهو جمع واحده جفن وهو غطاء العين، والثاني اسم تفضيل بمعنى أكثرنا جفاء. فالجناس بين متماثلين لفظا مختلفين معنى.
وقول البحتري:
إذا العين راحت وهي عين على الهوى  فليس بسر ما تسر الأضالع
العين الأولى الباصرة، والثانية الجاسوس.
وقول أبي تمام:
إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا  صدور العوالي في صدور الكتائب
فلفظ «الصدور» في هذا البيت واحد والمعنى مختلفه.
وقوله أيضا مادحا:
من القوم جعد أبيض الوجه والندى  وليس بنان يجتدي منه بالجعد
فالجعد السيد، والبنان الجعد ضد البسيط، فأحدهما يوصف به الكريم السخي والآخر يوصف به البخيل الشحيح.
ومن أمثلة الجناس المماثل بين «فعلين»، قول أبي محمد الخازن:
قوم لو أنهمو ارتاضوا لما قرضوا  أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
«فشعروا» الأولى بمعنى أحسوا، و «شعروا» الثانية بمعنى نظموا الشعر.
وقول شاعر:
يا إخوتي مذ بانت النجب  وجب الفؤاد وكان لا يجب
فارقتكم وبقيت بعد كمو  ما هكذا كان الذي يجب
فيجب في آخر البيت الأول من الوجيب وهو الارتجاف والاضطراب، وفي آخر البيت الثاني من الوجوب وهو اللزوم والثبوت.
ومن أمثلة الجناس المماثل بين «حرفين»، نحو قولك: «فلان يعيش بالقلم الحر الجريء فتفتح له أبواب النجاح به». فالباء في «بالقلم» هي الداخلة على آلة الفعل فتفيد معنى الاستعانة، أي أنه يستعين بالقلم على العيش، والباء في «به» هي باء السببية، بمعنى أن أبواب النجاح تفتح له بسبب قلمه الحر الجريء. ففي البائين جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى.
ومثل قولك: «قد ينزل المطر شتاء وقد ينزل صيفا» فلفظة «قد» الأولى للتكثير والأخرى للتقليل، لأن المطر يكثر نزوله شتاء ويقل صيفا.
ونحو قولك أيضا: «من الناس من يعمل من شروق الشمس إلى ما
بعد غروبها بساعات» فلفظة من في «من الناس» تفيد معنى التبعيض، أي بعض الناس، ولفظة من في «من شروق الشمس» تفيد معنى الابتداء أي ابتداء من شروق الشمس، فبين الحرفين كما ترى جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى.
...

2 - الجناس المستوفى: هو ما كان ركناه، أي لفظاه، من نوعين مختلفين من أنواع الكلمة، بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا، أو بأن يكون أحدهما حرفا والآخر اسما أو فعلا.
فمن أمثلة الجناس المستوفى بين الاسم والفعل قول محمد بن كناسة في رثاء ابن له:
وسميته يحيى ليحيا ولم يكن  إلى رد أمر الله فيه سبيل
تيممت فيه الفأل حين رزقته  ولم أدر أن الفأل فيه يفيل (1)
فالجناس هنا بين «يحيى» الاسم و «ويحيا» الفعل، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى ونوعا.
__________
(1) الفأل: ضد الطيرة، وهو لا يكون إلا فيما يستحب، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، ويفيل، يخطئ.

ومن أمثلته وفي نفس اللفظين السابقين قول أبي تمام:
ما مات من كرم الزمان فإنه  يحيا لدى يحيى بن عبد الله
ومنه قول الشاعر:
إذا رماك الدهر في معشر  وأجمع الناس على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم  وأرضهم ما دمت في أرضهم
فدارهم الأولى فعل أمر من المداراة، ودارهم الثانية اسم للبيت، وأرضهم الأولى فعل أمر من الإرضاء، وأرضهم الثانية هي الأرض اسم.
ومنه قول أبي العلاء المعري:
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا  ونحن في حفر الأجداث أحيانا
فأحيانا الأولى اسم بمعنى من وقت لآخر، وأحيانا الثانية فعل مضارع بمعنى بعث فينا الحياة من جديد، ففي اللفظين الجناس المستوفى لتشابههما لفظا واختلافهما نوعا ومعنى.
ومن بديع الجناس بين الاسم والفعل ما كتب به إلى الخليفة المأمون في حق عامل له وهو: «فلان ما ترك فضة إلا فضها، ولا ذهبا إلا أذهبه، ولا مالا إلا مال عليه، ولا فرسا إلا افترسه، ولا دارا إلا أدارها ملكا، ولا غلّة إلا غلّها، ولا ضيعة إلا ضيّعها، ولا عقارا إلا عقره، ولا حالا إلا أحاله، ولا جليلا إلا أجلاه، ولا دقيقا إلا دقه».
ومن الجناس المستوفى بين الفعل والحرف قول الشاعر:
علا نجمه في عالم الشعر فجأة  على أنه ما زال في الشعر شاديا
فالجناس هنا بين «علا» الأولى وهي فعل بمعنى ارتفع و «على» الثانية التي هي حرف جر.
ومنه قول شاعر آخر:
ولو أن وصلا عللوه بقربه  لما أنّ من حمل الصبابة والجوى
فالجناس هنا بين «أن» الأولى وهي حرف توكيد ونصب و «أن» الثانية فعل ماض من الأنين.
...
3 - جناس التركيب: وهو ما كان أحد ركنيه كلمة واحدة والأخرى مركبة من كلمتين: وهذا الجناس ثلاثة أضرب تأتي على النحو التالي:
أ- المتشابه: وهو ما تشابه ركناه، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا وخطا.
ومن أمثلته قول الشاعر:
إذا ملك لم يكن ذا هبه  فدعه فدولته ذاهبه
ومثله قول القائل:
يا سيدا حاز رقى.  بما حباني وأولى
أحسنت برا فقل لي  أحسنت في الشكر أولا؟
فالجناس بين «أولى» وهي كلمة مفردة فعل بمعنى منح وأعطى، وبين «أولا» وهي كلمة مركبة من «أو» العاطفة و «لا» النافية.
ومثله قول شمس الدين محمد بن عبد الوهاب:
حار في سقمي من بعد همو  كل من في الحي داوى أورقا
بعدهم لا طل وادي المنحنى  وكذا بان الحمى لا أورقا (1)
فركن الجناس الأول هنا «أورقا» وهو مركب من كلمتين أولاهما «أو» العاطفة، والأخرى «رقا» الفعل بمعنى عوّذه
بالله، وركنه الثاني «أورقا» الفعل وهو كلمة واحدة بمعنى خرج ورقه.
__________
(1) البان: شجر يطول في استواء مثل نبات الأثل، وهو شديد الخضرة، وثمره كاللوبياء واحدته «بانة» وبها تشبه الجارية الناعمة. والمعنى: لا سقى الله وادي المنحنى ولا أورق بان الحمى بعد رحيلهم.

ب- المفروق: وهو ما تشابه ركناه، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا لا خطا.
ومن أمثلة هذا النوع كقول الشاعر:
لا تعرضن على الرواة قصيدة  ما لم تكن بالغت في تهذيبها
وإذا عرضت الشعر غير مهذب  عدوه منك وساوسا تهذي بها
فالجناس بين: تهذيبها، وتهذي بها؛ وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلافهما معنى.
ومنه قول الشاعر:
قلت للعاذل الملح على الدم  ع وإجرائه على الخد نيلا
سل سبيلا إلى النجاة ودع دم  ع عيوني يجري لهم سلسبيلا
فركنا الجناس «سل سبيلا» و «سلسبيلا» وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى.
ومثله قول ابن أسد الفارقي:
عدونا بآمال ورحنا بخيبة  أماتت لنا أفهامنا والقرائحا (1)
فلا تلق منا غاديا نحو حاجة  لتسأله عن حاجة والق رائحا
فالجناس بين: «القرائحا» و «الق رائحا» الأولى اسم هو جمع قريحة، والأخرى مركبة من فعل أمر واسم، والركنان متشابهان لفظا مختلفان خطا ومعنى.
__________
(1) القرائح: جمع قريحة، وقريحة الإنسان طبيعته التي جبل عليها، لأنها أول خلقته.

ومثله قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف:
أسرع وسر طالب المعالي  بكل واد وكل مهمة
وإن لحا عاذل ...جهول  فقل له: يا عذول مه مه
ومنه قول الشاعر:
فقل لنفسك أي الضرب يوجعها  ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي
فالجناس بين اسم مفرد «النواقيس» جمع ناقوس، ومركب من اسم وفعل «النوى» اسم بمعنى الفراق و «قيسي» الأمر المسند إلى ياء المخاطبة من قاس يقيس. وقد تشابه به الركنان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى.
ومنه كذلك قول بهاء الدين السبكي:
كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي  حتى تعود لي الحياة وأنت هي
فالجناس بين «انتهى» و «أنت هي».
وهكذا يسمى الجناس في هذه الأمثلة ونظائرها مما يأتي فيه ركنا الجناس أو لفظاه متشابهين لفظا لا خطا بالجناس «المفروق».
ج- المرفوّ: وهو ما يكون فيه أحد الركنين كلمة والآخر مركبا من كلمة وجزء من كلمة، نحو قول الحريري:
والمكر مهما أسطعت لا تأته  لتقتني السودد والمكرمة
فالجناس هنا ركنه الأول مركب من كلمة وجزء من كلمة، هما لفظة «المكر» والميم والهاء من «مهما» والثاني مفرد هو «المكرمة».
ومثله قول الحريري أيضا:
ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه  بدمع يحاكي المزن حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه  وروعة ملقاه ومطعم صابه
فالجناس هو بين كلمة «مصابه» ومركب من كلمة وجزء من كلمة أخرى، هما الميم الأخيرة من «مطعم» وكلمة «صابه»، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى.
وهذا النوع الأخير من جناس التركيب لا يخلو، كما يبدو، من تعسف وتعقيد بالمقارنة إلى نوعيه الآخرين.
...

الجناس غير التام: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة السابقة التي يجب توافرها في الجناس التام، وهي: أنواع الحروف، وأعدادها، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها.
أ- فإن اختلف اللفظان في أنواع الحروف فيشترط ألا يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد. وهذا الجناس يأتي على ضربين:
1 - جناس مضارع: وهو ما كان فيه الحرفان اللذان وقع فيهما الاختلاف متقاربين في المخرج، سواء كانا في أول اللفظ نحو قول الحريري: «بيني وبين كن ليل دامس وطريق طامس» (1)، أو في الوسط نحو قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، أو في الآخر نحو:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير».
2 - جناس لاحق: وهو ما كان الحرفان فيه متباعدين في المخرج، سواء أكانا في أول اللفظ نحو قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أو في الوسط نحو قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ
__________
(1) الكن بكسر الكاف وتشديد النون: المنزل، والدامس: الشديد الظلمة، والطامس:
المطموس العلامات الذي لا يهتدى فيه إلى المراد.

وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أو في الآخر نحو قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ (1).
__________
(1) وإذا جاءهم: أي إذا جاء المنافقين وضعاف العقول من المسلمين خبر أمر من أمور جيوش المسلمين مما يتصل بأمنها أو بما تخافه أذاعوا به، أي أذاعوه ونشروه وتحدثوا به، وقد يكون في ذلك ضرر على الجيوش.
...

ب- وإن اختلف اللفظان في أعداد الحروف سمي الجناس ناقصا وذلك لنقصان أحد اللفظين عن الآخر، وهو يأتي كذلك على ضربين:
1 - ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بحرف واحد، سواء كان ذلك الحرف في أول اللفظ نحو قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أو في الوسط نحو: «جدّي جهدي» (2) أو في الآخر كقول الشاعر:
عذيري من دهر موار موارب  له حسنات كلهن ذنوب
وقول شاعر متغزلا:
وسألتها بإشارة عن حالها  وعليّ فيها للوشاة عيون
فتنفست صعدا وقالت: ما الهوى  إلا الهوان فزال عنه النون
وقول البهاء زهير:
أشكو وأشكر فعله  فأعجب لشاك منه شاكر
طرفي وطرف النجم في  ك كلاهماه ساه وساهر
__________
 (2) الجد بفتح الجيم: الحظ، والجهد بفتح الجيم: المشقة والاجتهاد، والمعنى حظي من الدنيا أو غناي فيها إنما هو على قدر ما أبذل من سعي واجتهاد، وما أتحمل من مشقة.

وقول أبي تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم  تصول بأسياف قواض قواضب (1)
وربما سمى هذا القسم الذي تكون فيه الزيادة في الآخر «مطرّفأ» وذلك لتطرف الزيادة فيه. ووجه حسن هذا النوع، كما يقول عبد القاهر الجرجاني، إنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من «عواصم» أنها هي الكلمة التي مضت، وإنما أتى بها للتوكيد، حتى إذا تمكن آخرها في نفسك ووعاه سمعك، انصرف عنك ذلك التوهم. وفي ذلك حصول الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها.
2 - ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بأكثر من حرف واحد في آخره.
وربما سمى هذا النوع «مذيلا». ومن أمثلته قول النابغة الذبياني:
لها نار جن بعد أنس تحولوا  وزال بهم صرف النوى والنوائب
وقوله أيضا راثيا:
فيا لك من حزم وعزم طواهما  جديد الردى بين الصفا والصفائح
وقول حسان بن ثابت:
وكنا متى يغز النبي قبيلة  نصل جانبيه بالقنا والقنابل (2)
__________
(1) يمدون من أيد: يصح أن تكون «من» زائدة فيكون المعنى يمدون أيديا، ويصح أن تكون للتبعيض، أي يمدون بعض أيد، ومثلها «هز من عطفه وحرك من نشاطه»، وعواص:
جمع عاصية من عصاه ضربه بالعصا: أي السيف هنا، وعواصم: جمع عاصمة من عصمه، أي حفظه ورعاه، وقاض: جمع قاضية: من قضى عليه قتله، وقواضب: جمع قاضب من قضبه قطعه، والمعنى: يمدون للضرب يوم الحرب أيديا ضاربات للأعداء حاميات للأولياء صائلات على الأقران بسيوف قاتلة قاطعة.
(2) القنابل: واحدها القنبلة والقنبل بفتح القاف فيهما: الجماعة من الناس أو الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه.

وقول الخنساء وهو من أرق ما سمع في هذا الباب:
إن البكاء هو الشفا  ء من الجوى بين الجوانح
ومما تجدر ملاحظته هنا أن بين المطرف والمذيل التقاء من وجه وافتراقا من وجه، فهما يلتقيان في أن كليهما زيادة في طرف أحد ركني الجناس، ويفترقان في أن زيادة المطرّف حرف واحد، أما المذيل فتكون الزيادة فيه بأكثر من حرف.
...

ج- وإن اختلف اللفظان في هيئة الحروف الحاصلة من الحركات والسكنات والنقط، فإن الجناس يأتي فيه على ضربين: محرّف، ومصحف.
1 - فالجناس المحرّف: هو ما اتفق ركناه، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها، واختلفا في الحركات فقط سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك، فإن القصد اختلاف الحركات.
ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. ولا يقال هنا إن اللفظين متحدان في المعنى لأنهما من «الإنذار» فلا يكون بينهما جناس، فاختلاف المعنى ظاهر، إذ المراد باللفظ الأول مُنْذِرِينَ الفاعلون وهم الرسل، وبالثاني الْمُنْذَرِينَ المفعولون، وهم الذين وقع عليهم الإنذار.
ومنه قول الرسول صلوات الله عليه: «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي». ومنه قولهم: «جبة البرد جنة البرد» (1) وكذلك قولهم:
«الجاهل إما مفرط أو مفرّط» الأول اسم فاعل من الإفراط وهو تجاوز الحد، والثاني اسم فاعل من التفريط وهو التقصير، وقولهم: «البدعة شرك الشرك».
__________
(1) وقع الاختلاف بين البرد والبرد، لأن الباء في الأول مضمومة ويراد بها الثوب وفي الثاني مفتوحة وهو ضد الحر. والجنة بضم الجيم: الوقاية.

ومن أمثلته شعرا قول المعري:
والحسن يظهر في بيتين رونقه  بيت من الشعر أو بيت من الشعر
الأول بالشين المكسورة والعين الساكنة، والثاني بالشين والعين المفتوحتين، والمراد منهما واضح.
وقول ابن الفارض:
هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ  لم يلف غير منعم بشقاء
وقول عبد العزيز الحموي:
لعيني كل يوم فيك عبرة  تصيرني لأهل العشق عبرة (1)
ومن أبدع ما جاء فيه هذا النوع من الجناس قول جميل بثينة، وبعضه من أنواع أخرى:
خليلي إن قالت بثينة: ما له  أتانا بلا وعد؟ فقولا لها لها
أتى وهو مشغول لعظم الذي به  ومن بات طول الليل يرعى السها سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى  إذا برزت لم تبق يوما بها بها
لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة  كأن أباها الظبي أو أمها مها
دهتني بود قاتل وهو متلفي  وكم قتلت بالود من ودها دها (2)
فالجناس في البيت الأول «تام»، وفي البيت الثاني والثالث والخامس «محرف» وفي البيت الرابع «مطرف».

__________
(1) العبرة بفتح العين: الدمعة، والعبرة بكسر العين: العظة.
(2) «لها لها» الكلمة الأولى جار ومجرور والثانية فعل ماض من اللهو، و «السها سها» الأولى اسم نجم والثانية فعل ماض من السهو، و «بها بها» الأولى جار ومجرور والثانية اسم مقصور من البهاء بمعنى الحسن، و «أمها مها» الأولى الأم المعروفة والثانية جمع مهاة وهي   هنا بقرة الوحش ومن معاني المهاة أيضا «الدرة والبلورة الشديدة البياض» فإذا شبهت المرأة بالمهاة في البياض فإنما يعني بها الدرة أو البلورة، فإذا شبهت بها في المقلتين أي العينين، فإنما يعني بها بقرة الوحش وهو المراد هنا في بيت جميل. و «بالود من ودها دها» الكلمة الأولى اسم بمعنى الوداد، والثانية فعل ماض بمعنى أحب، وهذان ركنا الجناس أما الكلمة الأخيرة «دها» فاسم مقصور من الدهاء وهي خارجة عن الجناس.

2 - والجناس المصحف: هو ما اتفق فيه ركنا الجناس، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في النقط فقط.
ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقوله تعالى أيضا: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى». وقول عمر بن الخطاب: «لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم تفتني ريحه». وقال أهل الأدب:
«خلف الوعد خلق الوغد».
ومن أمثلة الجناس المصحف في الشعر قول الشاعر:
فإن حلوا فليس لهم مقر  وإن رحلوا فليس لهم مفر
وقول أبي فراس الحمداني:
من بحر جودك أغترف  وبفضل علمك أعترف
وقول البهاء زهير متغزلا:
وليس مشيبا ما ترون بعارضي  فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا
وما هو إلا نور ثغر لثمته  تعلق في أطراف شعري فألهبا
وأعجبني التجنيس بيني وبينه  فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا
فالشنب بفتحتين صفة حسن ورقة وعذوبة في الثغر، يقال: ثغر أشنب، أي طيب النكهة رقيق تبدو منه الثنايا بيضاء نقية، والجناس هنا في «أشنبا» و «أشيبا»، واللفظان متماثلان في كل شيء ولا يختلفان إلا في النقط فقط، وكل جناس من هذا النوع يسمى «جناس التصحيف».
...

د- وإن اختلف اللفظان في ترتيب الحروف سمي «جناس القلب»، وسماه قوم «جناس العكس». وهذا الجناس يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب. وهو يأتي على أربعة أضرب.
1 - قلب كل: وذلك إذا جاء أحد اللفظين عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها، نحو قولهم: «حسامه فتح لأوليائه وحتف لأعدائه»، وهذا المعنى مأخوذ من قول العباس بن الأحنف:
حسامك فيه للأحباب فتح  ورمحك فيه للأعداء حتف
ومنه قول الشاعر وقد جانس بين لفظي «راهب» و «بهار» بفتح الباء:
حكاني بهار الروض حين ألفته  وكل مشوق للبهار مصاحب (1)
__________
(1) البهار بفتح الباب نبت طيب الريح له زهرة صفراء ينبت أيام الربيع، وقيل هو العرار بفتح العين الذي يقال له عين البقر. قال الشاعر: تمتع من شميم عرار نجد  فما بعد العشية من عرار

فقلت له ما بال لونك شاحبا  فقال لأني حين أقلب راهب
فكل من «بهار» و «راهب» مقلوب الآخر أو عكسه في ترتيب حروفه كلها.
ومن بديع هذا النوع من الجناس قول جمال الدين بن نباتة في مدح الأمير شجاع الدين بهرام:
قيل كل القلوب من  رهب الحرب تضطرب
قلت هذا تخرص  قلب بهرام ما رهب (1)
فالجناس هنا بين «بهرام» و «ما رهب» وكلاهما عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها.
2 - قلب بعض: وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب بعض الحروف. ومن أمثلة هذا النوع قول الشاعر:
إن بين الضلوع مني نارا  تتلظى فكيف لي أن أطيقا؟
فبحقي عليك يا من سقاني  أرحيقا سقيتني أم حريقا؟
فالجناس بين «رحيقا» و «حريقا» فالاختلاف هو في ترتيب الحرفين الأولين منهما.
ومنه قول القائل:
وألفيتهم يستعرضون حوائجا  إليهم ولو كانت عليهم جوائحا
فالجناس بين «حوائجا» و «جوائحا» وهو قلب جزئي في ترتيب بعض الحروف ومنه قول عبد الله بن رواحة في مدح الرسول:
__________
(1) التخرص بتشديد الراء: الكذب.

تحمله الناقة الأدماء معتجرا  بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما (1)
فالجناس بين «البرد» وهو الثوب و «البدر».
وقول أبي تمام:
بيض الصفائح لا سود الصحائف في  متونهن جلاء الشك والريب (2)
فالجناس بين «الصفائح» وهي السيوف العريضة و «الصحائف».
وكذلك قول المتنبي:
ممنعة منعمة رداح  يكلف لفظها الطير الوقوعا (3)
ففي كل هذه الأمثلة وقع الجناس بين لفظين مختلفين في ترتيب بعض الحروف، ولهذا يقال إن الجناس فيها وفي نظائرها جناس «قلب بعض».
__________
(1) الناقة الأدماء: البيضاء بياضا واضحا، ومعتجرا: من اعتجر العمامة لفها على رأسه.
(2) الصفائح: جمع صفيحة، وهي السيف العريض.
(3) امرأة رداح: ضخمة العجيزة ثقيلة الأوراك.

3 - قلب مجنح: وهو ما كان فيه أحد اللفظين اللذين وقع بينهما القلب في أول البيت والثاني في آخره، كأنهما جناحان للبيت.
ومن أمثلة ذلك قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف:
أسكرني باللفظ والمقلة ال  كحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة  وكل ساق قلبه قاس
فالجناس هنا بين «ساق» في أول البيت و «قاس» في آخره، ولهذا يقال له جناس «قلب مجنح». وإذا نظرنا إلى مجيء أحد اللفظين عكس الآخر في جميع حروفه قلنا إن فيه جناس «قلب كل» أيضا.
ومنه كذلك قول الشاعر:
قد لاح أنوار الهدى  في كفه في كل حال
4 - مستو: وهذا النوع سماه قوم المقلوب، وسماه السكاكي مقلوب الكل، وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن يكون عكس لفظي الجناس كطردهما، بمعنى أنه يمكن قراءتهما من اليمين والشمال دون أن يتغير المعنى، نحو قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ* فإنك لو عكست هذا التركيب فبدأت من الكاف في فَلَكٍ* إلى الكاف في كُلٌّ* كان هو بعينه.
وكذلك الشأن في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. ومنه قول الحريري: «ساكب كاس». ومن الغايات في هذا الباب قول القائل:
لبق أقبل فيه هيف  كل ما أملك إن غنى هبه
فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب.
وأعلى من البيت السابق منزلة قول سيف الدين بن المشد:
ليل أضاء هلاله  أنى يضيء بكوكب
فكل كلمة في هذا البيت تقرأ مستوية ومقلوبة، وهو مما لا يستحيل بالانعكاس.
...

وهناك نوع من الجناس غير الأنواع السابقة يسميه علماء البديع «الجناس الملفق».
وحدّ الملفق أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين، وهذا هو الفرق بينه وبين «جناس التركيب» الذي أحد ركنيه كلمة مفردة والثاني مركب من كلمتين.
ومن الجناس الملفق في النظم قول الشاعر:
وكم لجباه الراغبين إليه من  مجال سجود في مجالس جود
ومنه قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين وقد ولى القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة وأقام في الحكم خمس سنين:
وليت الحكم خمسا وهي خمس  لعمري والصبا في العنفوان
فلم تضع الأعادي قدر شأني  ولا قالوا فلان قد رشاني
ومنه كذلك قول شرف الدين بن عنين:
خبروها بأنه «ما تصدى»  لسلو عنها ولو «مات صدا»
...

وهذا ومما تجدر الإشارة إليه أن أحد المتجانسين إذا ولى الآخر سمي «مزدوجا» و «مكررا» و «مرددا»، نحو قوله تعالى: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. ونحو قولهم: من طلب وجدّ وجد. وقولهم: من قرع بابا ولجّ ولج.

الكتاب: علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة



0 Response to "المحسنات البديعية اللفظية الجناس"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel