بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

المذهب الكلامي


المذهب الكلامي

المذهب الكلامي نوع كبير من أنواع البديع المعنوي، وقد عده ابن المعتز أحد الفنون البديعية الخمسة الأساسية التي بنى عليها كتابه«البديع»، وقال عنه: «هو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي.

وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا، وهو ينسب إلى التكلف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (1).
__________
(1) كتاب البديع لا بن المعتز ص 53 - 57.

ولكن ابن المعتز لم يذكر مفهوم الجاحظ لهذا الفن البديعي كما أنه لم يحاول هو تحديده، وكل ما فعله أنه ذكر بعض أمثلة له، منها قول الفرزدق:
لكل امرئ نفسان: نفس كريمة  وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها

ونفسك من نفسيك تشفع للندى  إذا قل من أحرار هنّ شفيعها
ومنها قول أبي نواس:
إن هذا يرى- ولا رأي للأح  مق- أني أعده إنسانا
ذاك في الظن عنده وهو عندي  كالذي لم يكن وإن كان كانا
وقول إبراهيم بن المهدي يعتذر للمأمون من وثوبه على الخلاقة:
البرّ منك وطاء العذر عندك لي  فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي  مقام شاهد عدل غير متهم
وإذا تأملنا كل مثال من هذه الأمثلة وجدنا أن الشاعر يدعي دعوى ثم يحاول التماس دليل مقنع عليها. تماما كما يفعل المتكلمون بإيراد الحجج العقلية على دعاواهم.
وعلى هذا فأغلب الظن أن مفهوم المذهب الكلامي عند الجاحظ وابن المعتز كما توحي به الأمثلة السابقة هو: اصطناع مذهب المتكلمين العقلي في الجدل والاستدلال وإيراد الحجج والتماس العلل، وذلك بأن يأتي البليغ على صحة دعواه بحجة قاطعة أيا كان نوعها.
ولعل مما يؤكد ذلك قول الجاحظ في معرض المعرفة والاستدلال:
«ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى، كما أنه لولا الاستدلال لما كان لوضع الدلالة معنى .....وللعقل في خلال ذلك مجال، وللرأي تقلب، وتنشر للخواطر أسباب، ويتهيأ لصواب الرأي أبواب» (1).
...

وقد عرض البلاغيون بعد ابن المعتز للمذهب الكلامي وعدوه من فنون البديع، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري وابن رشيق القيرواني.
وكلام هذين الأديبين لم يزد في جملته على ما قاله ابن المعتز نقلا عن الجاحظ، ولكن أبا هلال يعلق بملاحظة ذكية على قول ابن المعتز، فيقول في مستهل كلامه عن المذهب الكلامي: «جعله عبد الله بن المعتز الباب الخامس من البديع، وقال: ما أعلم أني وجدت منه شيئا في القرآن وهو ينسب إلى التكلف، فنسبه إلى التكلف وجعله من البديع» (2)!.
كما أن ابن رشيق يقرر أنه «مذهب كلاميّ فلسفيّ» (3) كما جاء في تعقيبه على بيتين من شعر أبي نواس.
...

وإذا ما انتهينا إلى العصور المتأخرة فإننا نجد الخطيب القزويني «739 هـ» يعرف المذهب الكلامي بقوله: «هو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام، نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (4).
__________
(1) كتاب الحيوان ج 2 ص 115 - 116.
(2) كتاب الصناعتين ص 410.
(3) كتاب العمدة ج 2 ص 76.
(4) كتاب التلخيص للقزويني ص 374.

والقزويني يقصد «بطريقة أهل الكلام» أن تكون الحجة بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب. ففي قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا اللازم، وهو فساد السموات والأرض باطل، لأن المراد به خروجهما عن النظام الذي هما عليه، فكذا الملزوم وهو تعدد الآلهة باطل.
ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي والإعادة أهون عليه من البدء، والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء. فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء وهو المطلوب.
وقد استشهد القزويني على هذا الفن البديعي أيضا بأبيات من قصيدة للنابغة الذبياني يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر، وهي:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة  وليس وراء الله للمرء مذهب (1)
لئن كنت قد بلغت عني خيانة  لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرأ لي جانب  من الأرض فيه مستراد ومذهب (2)
ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم  أحكم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم  فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا
فالقضية كما يفهم من القصيدة التي منها هذه الأبيات أن النابغة قد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان لذلك وغضب على الشاعر. وفي هذه الأبيات التي هي مثال للمذهب الكلامي يجادل النابغة النعمان بالمنطق ويدافع عن نفسه بالحجج وبأنه لم ينحرف عن ولائه له، وليس من العدل التفرقة في الحكم بين مدح ومدح. ثم ينتهي بالحجة الدامغة فيقول: أنت أحسنت إلى قوم أراك اصطفيتهم فمدحوك، وأنا أحسن إليّ قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا، فكذلك مدحي لمن أحسن إليّ لا يعد ذنبا.
ففي المذهب الكلامي قضايا ودعاوى يدافع عنها بالمنطق والجدل، والحجج والأدلة المقنعة، كما رأينا.
__________
(1) الريبة: الشك.
(2) مستراد: موضع يتردد فيه لطلب الرزق، وهو من راد كلأ بمعنى طلبه.

...

وممن جاءوا بعد القزويني وعرضوا للمذهب الكلامي ابن حجة الحموي أحد علماء وأدباء القرن التاسع الهجري.
ففي مستهل حديثه عنه يقول: «المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ. وهو في الاصطلاح أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة».
ثم يستطرد إلى الرد على قول ابن المعتز بأنه لا يعلم ذلك في القرآن، يعني المذهب الكلامي، فيقول ابن حجة: «وليس عدم علمه مانعا علم غيره، إذ لم يستشهد على هذا المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن، وأصح الأدلة في شواهد هذا النوع وأبلغها قوله تعالى:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله، وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا، فليس فيهما آلهة غير الله».
ومن أدلته أيضا عنده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»، وتمام الدليل أن يقال: لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم. فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه.
ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي:
لو يكون الحبّ وصلا كله  لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرا كله  لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا  يستطاب الماء إلا بالعلل
فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي، فإنه قاس الوصل على الماء، فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر.
وعند ابن حجة أن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره، وأعذب في الذوق، وأسهل في التركيب، فإنه جملة واقعة بعد «لو» الشرطية وجوابها، وهذه الجملة على اصطلاح المناطقة مقدمة شرطية يستدل بها على
ما تقدم من الحكم (1).
__________
(1) ارجع إلى كلام ابن حجة الحموي عن هذا النوع البديعي في كتابه «خزانة الأدب» ص 165.

اللف والنشر
ويسميه بعض البديعيين «الطي والنشر»: وهو ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك بالقرائن اللفظية أو المعنوية.
وهذا يعني أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما، وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به من غير حاجة إلى أن تنص أنت على ذلك.
أقسامه:
واللف والنشر كما يفهم من التعريف السابق قسمان:
الأول: ذكر المتعدد على التفصيل وهو ضربان:
1 - أحدهما: أن يكون النشر على ترتيب اللف بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف، والثاني للثاني، وهكذا إلى الآخر. وهذا الضرب هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر.
ومن شواهد هذا الضرب بين اثنين قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء من فضل الله راجع إلى النهار على الترتيب.
ومن شواهده شعرا قول الشاعر:
ألست أنت الذي من ورد نعمته  وورد راحته أجني وأغترف؟
ومنها أيضا مع زيادة التورية قول شاعر آخر:
سألته عن قومه فانثنى  يعجب من إسراف دمعي السخي
وأبصر المسك وبدر الدجى  فقال ذا خالي وهذا أخي
ومن شواهده بين ثلاثة وثلاثة قول ابن حيوس:
ومقرطق يغني النديم بوجهه  عن كأسه الملأى وعن إبريقه (1)
فعل المدام ولونها ومذاقها  من مقلتيه ووجنتيه وريقه
__________
(1) المقرطق: لابس القرطق، أي القباء بفتح القاف وهو نوع من الثياب.

ومنها قول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم  في الحادثات إذا دجون نجوم
فيها معالم للهدى ومصابح  تجلو الدجى والأخريات رجوم (1)
ومثله قول حميدة الأندلسية:
ولما أبي الواشون إلا فراقنا  وما لهمو عندي وعندك من ثار
غزوناهمو من ناظريك وأدمعي  وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار
ومن شواهد ذكر المتعدد على التفصيل والترتيب بين أربعة وأربعة قول الشاب الظريف شمس الدين بن العفيف:
رأى جسدي والدمع والقلب والحشا  فأضنى وأفنى واستمال وتيما
__________
(1) الرجوم: مفرده الرجم بسكون الجيم وهو القتل، والاخريات رجوم: أي والاخريات منايا.

ومن شواهده أيضا قول الشاعر:
ثغر وخد ونهد واحمرار يد  كالطلع والورد والرمان والبلح
وقد افتن الشعراء في هذا النوع من اللف والنشر المفصل المرتب حتى بلغوا فيه إلى الجمع بين عشرة وعشرة كقول بعضهم:
شعر جبين محيا معطف كفل  صدغ فم وجنات ناظر ثغر
ليل صباح هلال بانة ونقا  آس أقاح شقيق نرجس درّ
وحسن هذا النوع من البديع يتمثل في أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو والتعقيد جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة. ولكن المبالغة والإسراف في كثرة المتعدد منه كما في بعض الأمثلة السابقة تخرج به عن دائرة البديع وتجرده من نعوت الحسن وترده إلى نوع من العبث يدعو إلى العجب منه بدل الإعجاب به.
2 - والضرب الثاني من اللف والنشر المفصل: هو ما يجيء على غير ترتيب اللف. ومن هذا الضرب ما يكون معكوس الترتيب، كقول ابن حيوس:
كيف أسلو وأنت حقف وغصن  وغزال لحظا وقدا وردفا (1)
فاللحظ للغزال، والقد للغصن، والردف للحقف.
وكقول الفرزدق:
لقد خنت قوما لو لجأت إليهمو  طريد دم أو حاملا ثقل مغرم
لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا  وراءك شزرا بالوشيج المقوّم (2)
ومنه ما يكون مختلطا مشوشا، ولهذا يسمى اللف والنشر المشوش، نحو: «هو ليل وورد ومسك خدا وأنفاسا وشعرا».
__________
(1) الحقف بكسر الحاء: الرمل العظيم المستدير يشبه به الكفل في العظم والاستدارة.
(2) الوشيج: شجر الرماح، وقيل: هي عامة الرماح واحدتها وشيجة، وقيل: هو من القنا أصلبه.
...

والقسم الثاني من اللف والنشر ما يكون ذكر المتعدد فيه على الإجمال، نحو قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. فإن الضمير في قالُوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فذكر الفريقان على وجه الإجمال بالضمير العائد إليهما، ثم ذكر ما لكل منهما، أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى.
فلف بين القولين إجمالا ثقة بقدرة السامع على أن يرد إلى كل فريق قوله، وأمنا من الالتباس، وذلك لعلمه بالتعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه بدعوى أن داخل الجنة هو لا صاحبه. وهذا القسم من اللف والنشر لا يقتضي ترتيبا أو عدم ترتيب.

...

ومن بديع اللف والنشر وغريبه أن يذكر متعددان أو أكثر ثم يذكر في نشر واحد ما يكون لكل من أفراد كل من المتعددين، كقول القائل:
«الغنى والفقر والعلم والجهل بها تحيا الشعوب وبها تموت».
«فالغنى والفقر» لف أول، و «العلم والجهل» لفّ ثان، وقوله: «بها تحيا الشعوب وبها تموت» نشر ذكر فيه ما لكل واحد من اللفين، لأن قوله: «بها تحيا الشعوب» نشر راجع للغنى من اللف الأول وللعلم من اللف الثاني. وقوله: «وبها تموت» نشر راجع للفقر في اللف الأول، وللجهل في اللف الثاني.
ولعنا بعد كل ما تقدم ندرك معنى تسمية هذا النوع من البديع المعنوي «باللف والنشر». فوجه تسمية المعنى المتعدد الأول على وجه التفصيل أو الإجمال باللف أنه انطوى فيه حكمه، لأنه اشتمل عليه من غير تصريح به، ثم لما صرح به في الثاني كان كأنه نشر لما كان مطويا، فلذلك سمي نشرا.

مراعاة النظير
ويسميه أصحاب البديع التناسب والائتلاف والتوفيق والمؤاخاة أيضا. وهو في الاصطلاح: أن يجمع الناظم أو الناشر أمرا وما يناسبه لا بالتضاد لتخرج المطابقة، سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى أو لفظا للفظ أو معنى لمعنى، إذ المقصود جمع شيء إلى ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أي وجه من الوجوه.
ومن أمثلة ذلك قول البحتري في وصف الإبل الانضاء التي أنحلها السير:
كالقسيّ المعطفات بل الأس  هم مبرية بل الأوتار
فإنه لما شبه الإبل بالقسي وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشبهها مثلا بالعراجين أو نون الخط لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة، ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار لما تقدم ذكر القسي.
ومن شواهد مراعاة النظير التي يجمع فيها بين الأمر وما يناسبه لا على وجه التضاد قول الشاعر في وصف فرس:
من جلّنار ناضر خده  وأذنه من ورق الآس (1)
فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس والنضارة.
__________
(1) الجلنار: زهر الرمان.

ومنها أيضا قول ابن رشيق في مدح الأمير تميم:
أصح وأقوى ما سمعناه في الندى  من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا  عن البحر عن كف الأمير تميم
فإن الشاعر قد ناسب هنا بين الصحة والقوة والسماع والخبر المأثور والرواية، ثم بين السيل والحيا والبحر وكف تميم، مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث، فإن السيول أصلها المطر والمطر أصله البحر، ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة.
ومنها كذلك قول الشاعر:
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ  رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة  والريح تكتب والغمام ينقط
فالجمع بين كل أمر وما يناسبه في البيتين أوضح من أن يدل عليه.

تشابه الأطراف:
ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم «تشابه الأطراف»، وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى، كقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبرة تناسب من يدرك شيئا، فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به.
ومنه قوله تعالى أيضا: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. قال: الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ على أن ما له ليس لحاجة، بل هو غني عنه جواد به، فإذا جاد به حمده المنعم عليه.

إيهام التناسب:
ويقصد به الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان وإن لم يكونا مقصودين، ومن أجل ذلك يلحق بمراعاة النظير.
ومثال إيهام التناسب هذا قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي بحساب معلوم وتقدير محكم دقيق، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ، النجم: النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول، والشجر الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما لله فيما خلقا له.
فالنجم بمعنى النبات وإن لم يكن مناسبا للشمس والقمر، فقد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما. ولهذا سمي إيهام التناسب.

أسلوب الحكيم
يقصد بأسلوب الحكيم تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.
ومن أمثلة ذلك: قيل لتاجر: «كم رأس مالك؟ فقال: إني أمين وثقة الناس بي عظيمة». وقيل لشيخ هرم: «كم سنك؟ فقال: إني أنعم بالعافية».
ففي السؤال الأول صرف التاجر سائله عن رأس ماله ببيان ما هو عليه من الأمانة وعظم ثقة الناس فيه، إشعارا بأن هاتين الصفتين وأمثالهما أجلب للربح وأضمن لنجاح التجارة.
وفي السؤال الثاني ترك الشيخ الهرم الإجابة عن السؤال الموجه إليه، وصرف سائله في رفق عن ذلك، وأخبره أن صحته موفورة، إشعارا للسائل بأن السؤال عن الصحة أولى وأجدر.
...
ولعل الجاحظ أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي، فقد عقد له بابا خاصا في كتابه البيان والتبيين (1) وأطلق عليه اسم «اللغز في الجواب» وأورد له أمثلة شتى منها:
سأل رجل بلالا مولى أبي بكر رحمه الله وقد أقبل من جهة الحلبة:
من سبق؟ قال: سبق المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له.
وقال الحجاج لرجل من الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أمتفرقا كان فأجمعه؟ قال أتقرؤه ظاهرا؟ قال: بل أقرؤه وأنا أنظر إليه. قال:
أفتحفظه؟ قال: أفخشيت فراره فأحفظه؟ قال ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال لعنه الله ولعنك. قال: إنك مقتول فكيف تلقى الله؟ قال ألقى الله بعملي، وتلقاه أنت بدمي.
وقالوا: كان الحطيئة يرعى غنما، وفي يده عصا، فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك، قال: عجراء من سلم (2)، يعني عصاه، قال: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها.
__________
(1) كتاب البيان والتبيين ج 2 ص 148، ص 282.
(2) العجراء: الكثيرة العجر، أي العقد، والسلم بالتحريك: شجر.

فمن هذه الشواهد ونظائرها يتضح أن هذا الأسلوب من الكلام والذي أطلق عليه الجاحظ «اللغز في الجواب» كان يستعمله العرب لأغراض مختلفة كالتظرف أو التخلص من إحراج السائل، أو تقديم الأهم، أو التهكم.
وما من شك في أن ما قدمه الجاحظ من أمثلة شتى في هذا الباب قد لفت أنظار البلاغيين من بعده لهذا النوع من الكلام، وأعطاهم الأساس للونين من ألوان البديع هما: اللغز وأسلوب الحكيم.
...

وقد أطلق عليه المتأخرون من البلاغيين اسم «القول بالموجب»، ولهم فيه عبارات مختلفة. ومن هؤلاء ابن أبي الأصبع المصري فقد عرفه بقوله: «هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم». وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه.
وكلام ابن أبي الأصبع هذا يذكرنا إلى حد ما بكلام الجاحظ السابق ويوحي بأنه قد تأثر به في مفهومه لهذا النوع البديعي.
وقد قسم الخطيب القزويني «القول بالموجب» في تلخيصه وإيضاحه (1) قسمين:
1 - أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم أو انتفائه.
مثال ذلك قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فإنهم كنوا «بالأعز» عن فريقهم، و «بالأذل» عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز «الإخراج»، فأثبت الله في الرد عليهم صفة الْعِزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم.
__________
(1) كتاب التلخيص ص 386، وكتاب الإيضاح ص 272.

ومنه أيضا ما جرى بين القبعثري والحجاج، فقد توعده الحجاج بقوله: «ولأحملنك على الأدهم» فقال القبعثري: «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب». فقال له الحجاج: «أردت الحديد»، فقال القبعثري:
«لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا». أراد الحجاج بالأدهم القيد، وبالحديد المعدن المخصوص، وحملهما القبعثري على الفرس الأدهم الذي ليس بليدا. فالكلام هنا قد حمله القبعثري على خلاف مراد الحجاج قائله.
...

2 - والقسم الثاني من أسلوب الحكيم أو القول بالموجب عند صاحب التلخيص هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه. وهذا القسم هو الذي شاع تداوله بين الناس ونظمه أصحاب البديعيات، كقول ابن حجاج (1):
قال ثقّلت إذا أتيت مرارا  قلت ثقّلت كاهلي بالأيادي
قال طوّلت قلت أوليت طولا  قال أبرمت قلت حبل ودادي
فصاحب ابن حجاج يقول له: قد ثقلت عليك وحملتك المشقة بكثرة زياراتي فيصرفه الشاعر عن رأيه في أدب وظرف وينقل كلمته من معناها إلى معنى آخر، ويقول له: إنك ثقلت كاهلي بما أغدقت عليّ من نعم.
وفي البيت الثاني يقول صاحبه: قد طولت إقامتي عندك وأبرمتك أي جعلتك برما ملولا، فيرد الشاعر عليه مرة أخرى في أدب ولطف
__________
(1) هو أبو عبد الله بن أحمد البغدادي، شاعر يميل إلى المجون في شعره، وله ديوان شعر كبير، توفي سنة 391 هـ.
وينقل كلامه من معناه إلى معنى آخر، ويقول له: إنك تطولت وأنعمت علي وأحكمت وقويت حبل ودادي.
...

ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. فالسؤال هنا عن حقيقة الأهلة: لم تبد صغيرة ثم تزداد حتى يتكامل نورها ثم تتضاءل حتى لا ترى؟.
ولما كانت هذه القضية من قضايا علم الفلك وفهمها وقتئذ يحتاج إلى دراسة عويصة، فإن القرآن قد عدل عن الإجابة عنها إلى بيان أن الأهلّة وسائل للتوقيت في المعاملات والعبادات. وفي هذه إشارة إلى أن ما كان ينبغي أن يسأل عنه هو فائدة الأهلّة لا حقيقتها، إلى أن تتيسّر لهم الحقائق العلمية التي تعينهم على فهم هذه الظاهرة الكونية.
ومنه كذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
فالمسلمون قد سألوا الرسول ماذا ننفق من أموالنا، فصرفهم عن هذا ببيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إن لم تقع موقعها.
ومن أمثلته شعرا قول شاعر راثيا:
ولما نعى الناعي سألناه خشية  وللعين خوف البين تسكب أمطار
أجاب قضى! قلنا قضى حاجة العلا  فقال مضى! قلنا بكل فخار
فأسلوب الحكيم في البيت الثاني هو في قوله: «قضى» ويريد بها «مات» ولكنهم حملوها على إنجاز الحاجات وقضائها، وهذا ما لم يقصده.
وكذلك في قوله: «مضى» أراد بها «مات» وأرادوا هم «ذهب بالفضل ولم يدع لأحد شيئا».
ومنه قول شاعر آخر:
ولقد أتيت لصاحبي وسألته  في قرض دينار لأمر كانا
فأجابني والله داري ما حوت  عينا فقلت له ولا إنسانا (1)
فالبيت الثاني جاء على أسلوب الحكيم، لأن المخاطب أراد بكلمة «عينا» الذهب، ولكن المتكلم حملها على العين الباصرة، وهو ما لم يقصده المخاطب، إشارة إلى أن منعه من القرض لا يجوز.
__________
(1) العين: الذهب والباصرة، والإنسان قد يراد به إنسان العين وقد يراد به أحد بني آدم.

ومنه كذلك قول بعضهم:
طلبت منه درهما  يوما فأظهر العجب
وقال ذا من فضة  يصنع لا من الذهب
ففي البيت الثاني صرف لطيف عن طلب الدينار، فإن الشاعر لم يجب السائل عن سؤاله، وإنما أخذ يحدثه فيما يصنع منه الدينار وأنه من الفضة لا من الذهب، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يطلب.
ومنه قول شاعر يجيب ابنا له سأله عن الروح والنفس:
جاءني ابني يوما وكنت أراه  لي ريحانة ومصدر أنس
قال: ما الروح؟ قلت: إنك روحي  قال: ما النفس؟ قلت: إنك نفسي
ففي البيت الثاني سأل الابن عن الروح والنفس وهما من الأمور التي حار العلماء والفلاسفة في تعريفهما وتحديدهما، ولهذا صرف الشاعر ابنه عن ذلك ببيان منزلته منه، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يتكلم في ذلك، لقصوره عن أن يتكلم فيما دق من الأمور.
...
وبعد فلعل في هذه الأمثلة ما يوضح ما سبق أن قلناه من أن أسلوب الحكيم أو القول بالموجب هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.
التجريد
وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة، وذلك لكمال تلك الصفة في الأمر الآخر.
والتجريد أقسام:
1 - منها ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «من» التجريدية، نحو قولهم: «لي من فلان صديق حميم» (1). أي بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص من فلان هذا صديق آخر مثله في الصداقة.
__________
(1) حميمك: قريبك الذي تهتم لأمره.

2 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «الباء» التجريدية الداخلة على المنتزع منه، نحو قولهم: «لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر». وهذا القول يقال في مقام المبالغة في وصف «فلان» بالكرم، حيث انتزع وجرد منه بحر في الكرم والسماحة.
3 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «باء المعية» الداخلة على المنتزع، نحو قول الشاعر:
وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى  بمستلئم مثل الفنيق المرحل (1)
فالمعنى: ورب فرس هذه صفتها تعدو بي لنجدة المستغيث في الحرب ومعي من نفسي آخر مستعد للحرب. فقد بالغ في اتصافه بالاستعداد حتى انتزع وجرّد من نفسه مستعدا آخر لابسا درعا.
__________
(1) وشوهاء: فرس شوهاء، وشوهاء في هذا الموضع صفة محمودة، ويراد بها سعة أشداق الفرس، وصارخ الوغى: أي المستغيث في الحرب، والمستلئم: لابس اللأمة وهي الدرع، والفنيق: الفحل المكرم عند أهله، والمرحل: من رحل البعير أشخصه من مكانه وأرسله.

4 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدخول لفظة «في» على المنتزع منه، نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ، أي لهم في جهنم، وهي دار الخلد، لكنه انتزع دارا أخرى مثلها وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها، ومبالغة في اتصافها بالشدة.
5 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدون توسط حرف، كقول قتادة بن مسلمة الحنفي:
فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة  تحوي الغنائم أو يموت كريم
فالشاعر قد عنى «بالكريم» هنا نفسه، فكأنه انتزع وجرّد من نفسه كريما مبالغة في كرمه. وقيل إن التقدير «أو يموت مني كريم» فيكون من قبيل: «لي من فلان صديق حميم» فلا يكون قسما آخر، وإنما يكون من القسم الأول
الذي يكون التجريد فيه حاصلا بدخول «من» التجريدية على المنتزع منه.
6 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بطريق الكناية، كقول الأعشى:
يا خير من يركب المطي ولا  يشرب كأسا بكف من بخلا
ففي البيت تجريد بطريق الكناية حيث انتزع وجرّد من الممدوح جوادا يشرب هو بكفه على طريق الكناية، لأنه إذا نفى عنه الشرب بكف البخيل، فقد أثبت له الشرب بكف كريم. ومعلوم أنه يشرب بكفه، فهو ذلك الكريم.
7 - ومن أقسام التجريد كذلك مخاطبة الإنسان نفسه، وذلك بأن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر يوجه الخطاب إليه، كقول المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال  فليسعد النطق إن لم يسعد الحال (1)
فالشاعر هنا ينتزع من نفسه إنسانا آخر يخاطبه قائلا: ليس عندك من الخيل والمال ما تهديه إلى الممدوح جزاء له على إحسانه إليك، فليسعدك ويعنك النطق، أي فامدحه، وجازه بالثناء عليه، إن لم تعنك الحال على مجازاته بالمال أو الخيل.
__________
(1) الإسعاد: الإعانة.

ومثله في مخاطبة النفس قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل  وهل تطيق فراقا أيها الرجل؟
ومن لطيف التجريد قول المعري:
ماجت نمير فهاجت منك ذا لبد  والليث أفتك أفعالا من النمر
...
وقد عرض ضياء الدين بن الأثير للتجريد فعرفه أولا لغة بقوله:
«إن أصله في وضع اللغة من جردت السيف إذا نزعته من غمده، وجرّدت فلانا إذا نزعت ثيابه. ومن ههنا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا مد ولا تجريد، وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وأن تجرد
ثيابه. وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع البيان».
ثم عرفه اصطلاحا بقوله: «التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد وإنما المراد نفسك».
وللتجريد عنده فائدتان إحداهما أبلغ من الأخرى، فالأولى طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك فإن ذلك من باب التوسع. وهو يظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات.
والفائدة الثانية هي الأبلغ عنده، وذلك أن المخاطب يتمكن بالتجريد من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه، إذ يكون مخاطبا بها غيره فيكون أعذر وأبرأ فيما يقوله غير محجور عليه.
...

وعنده أن التجريد يأتي على ضربين:
1 - تجريد محض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له:
إلام يراك المجد في زي شاعر  وقد نحلت شوقا فروع المنابر؟
كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة  ببعضهما تنقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنك فارس ال  مقال ومحيي الدارسات الغوابر
وإنك أعييت المسامع والنهى  بقولك عما في بطون الدفاتر
ثم يعلّق على ذلك بقوله: «فهذا من محاسن التجريد. ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعد ما عده من الصفات التائهة (1)؟ وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض».
__________
(1) التائهة هنا: صفة مشتقة من التيه بمعنى الصلف والكبر والزهو، وليست مشتقة من «التيه» مصدر تاه يتيه في الأرض بمعنى ضل فيها وتحير.

2 - وتجريد غير محض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لنفسك لا لغيرك. ثم يستطرد ابن الأثير فيقول: «ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر».
والفرق عنده ظاهر بين هذين الضربين من التجريد، فالأول وهو المحض يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به، أما الثاني وهو غير المحض فهو نصف تجريد، لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا، وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك. ومن أمثلة التجريد غير المحض عنده قول عمر بن الأطنابة:
أقول لها وقد جشأت وجاشت  رويدك تحمدي أو تستريحي
ومنه قول شاعر آخر:
أقول للنفس تأساء وتعزية  إحدى يدي أصابتني ولم ترد
وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول، وإنما المتكلم هو المخاطب بعينه، وليس ثم شيء خارج عنه.
...

أما التجريد الذي قصد به التوسع خاصة، وهو ما كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك، فقد مثل له ابن الأثير بقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة وهو:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت  مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا  وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني  على كبدي من خشية أن تصدعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرّبا  وما أحسن المصطاف والمتربعا!
فالبيتان الأولان يدلان على أن المراد بالتجريد فيهما هو التوسع، لأن الخطاب فيهما تجريدي إذ وجه الخطاب إلى غيره وهو يريد شخصه، ثم انتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس في البيتين الأخيرين.
ولو استمر على الحالة الأولى لما قضى عليه بالتوسع، وإنما كان يقضي عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر، وكان يتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أنه ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق لما في ذلك من الشهرة والغضاضة. لكنه قد أزال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولا إلى خطاب النفس (1).
__________
(1) انظر في موضوع التجريد كتاب المثل السائر لابن الأثير ص 165 - 167.

الكتاب: علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة


0 Response to "المذهب الكلامي"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel