بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الفصاحة والبلاغة والاسلوب

الفصاحة

وإذا ما انتقلنا من البلاغة إلى الفصاحة فإننا نرى أن الفصاحة في أصل الوضع اللغوي: الظهور والبيان، فهي من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره، والدليل على ذلك قول العرب: أفصح الصبح إذا ظهر وأضاء، وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر، وأفصح الأعجمي إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين، وفصح اللحّان، أي كثير اللحن والخطأ، إذا عبر عما في نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.


وإذا كان الأمر كذلك فالفصاحة والبلاغة ترجعان إذن إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما، لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى وإظهاره.
ويذكر أبو هلال العسكري نقلا عن بعض علماء العربية، أن الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحا، إذ كانت الفصاحة تتضمن معنى الآلة، ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة، وإنما يوصف كلامه بالفصاحة، لما يتضمن من تمام البيان.
والدليل على ذلك عنده أن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وسمي الشاعر الأموي زياد بن سليمان مولى عبد القيس «زيادا الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف (1).
__________
(1) كتاب الصناعتين ص: 7 - 8.
فقد كان كسائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين والخاء، والصاد، فكان ينطق كلمات مثل «الحمار» «الهمار» و «دعوتك» «دأوتك» و «تصنع»  «تسنأ». ومع ما في هذه الألفاظ من القبح واللكنة فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه، كقوله في رثاء المهلب بن المغيرة:
قل للقوافل والقريّ إذا قروا  والباكرين وللمجدّ الرائح (1)
إن المروءة والسماحة ضمنا  قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به  كوم الهجان وكل طرف سابح (2)
__________
(1) القري: كل شيء على طريق واحد. إذا قروا: إذا ساروا في الأرض.
(2) العقر: قطع قوائم الفرس أو البعير أو الشاة بالسيف تمكينا من نحرها وذبحها. وكان العرب يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كوم الهجان: الإبل الكريمة البيضاء الضخمة السنام. الطرف: الكريم من الخيل.

فعلى هذا- كما يقول أبو هلال العسكري- تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أن الفاصحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى.
وقد استدل أبو هلال على أن الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى بالببغاء، فالببغاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا، إذ هو مقيم الحروف، وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه.
ويرى أبو هلال كذلك أنه يجوز أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فجّ ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
ويذهب قوم إلى أن الكلام لا يسمى فصيحا حتى يجمع مع نعوت الجودة فخامة وشدة جزالة، فإذا جمع الكلام نعوت الجودة ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغا ولم يسم فصيحا، ويضربون لذلك مثلا قول إبراهيم بن العباس الصولي:
تمر الصبا صفحا بساكنة الغضى  ويصدع قلبي أن يهب هبوبها (1)
قريبة عهد بالحبيب وإنما  هوى كل نفس حيث حل حبيبها
فالبيت الأول عندهم فصيح وبليغ لاشتماله على نعوت الجودة مع الفخامة والجزالة، والبيت الثاني بليغ وليس بفصيح، لتضمنه نعوت الجودة دون الفخامة والجزالة.
وربما كان ضياء الدين بن الأثير (2) أكثر من غيره تصورا وفهما لمعنى الفصاحة، وذلك حيث يقول: «لم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول في الفصاحة والبحث عنها، ولم أجد من ذلك ما يعوّل عليه إلا القليل، وغاية ما يقال من هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر، ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه، وبهذا القول لا تبين حقيقة الفصاحة، لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:
أحدها أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.
الوجه الآخر أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص، فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذن فصيح عند هذا غير فصيح عند هذا، وليس الأمر كذلك بل الفصيح هو الفصيح عند الجميع، لا خلاف فيه بحال من الأحوال، لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
__________
(1) الصبا: الريح تهب من مطلع الشمس. الغضى: شجر من نبات الرمل. يصدع: يشق.
(2) كتاب المثل السائر لابن الأثير ص 26 - 27.

الوجه الأخير أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بيّن ينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن للفظ لا وصف قبح. فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل:
«إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من غير تفصيل» ثم يستطرد ابن الأثير فيقول: «ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه فأقول: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة، لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم، وإنما كانت مألوفة في الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا ...فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح إذن من الألفاظ هو الحسن».
«فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟.
قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها، لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟».
«والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة (1) والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم ...
__________
(1) المزنة: السحابة ذات الماء.

وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، وإنما كان ظاهرا بينا لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف.
فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه.
وقد مثلت ذلك في المتقدم بلفظة المزنة والديمة ولفظة البعاق، ولو كانت الفصاحة أمرا يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء، ليس منها حسن وليس منها قبيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أن «الفصاحة» تخص اللفظ دون المعنى.
وليس لقائل ههنا أن يقول: لا لفظ إلا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإني لم أفصل بينهما وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء ضمنا وتبعا».
وتدعيما لرأيه السابق في قضية الحسن والقبح في اللفظ، وردا على من ينكر ذلك ويزعم أن كل الألفاظ حسن وأن الواضع لم يضع إلا حسنا، يقول ابن الأثير (1) في موضع آخر من كتابه: «ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم».
__________
(1) المثل الثائر ص 59.

«ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج (1)، وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط (2)، وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل، وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس (3)، فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه».
__________
(1) العسلوج: الغصن الناعم لسنته.
(2) الإسفنط: اسم من أسماء الخمر فارسي معرب، وقيل رومي معرب.
(3) الفدوكس: الأسد.

...
ولعل من المفيد أن نفرق منذ البدء بين البلاغة العربية والنقد الأدبي حيث لكل منهما ميدانه الخاص وفلكه الذي يدور فيه. فالبلاغة العربية تقف عند حدود البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل، أما البحث في القيمة الجمالية للنص الأدبي المتكامل في أي صورة من صوره، فهذا من وظيفة النقد الأدبي.
وعلى هذا المفهوم فإن البلاغة العربية تقدم بنظرياتها للناقد أهم الأدوات التي تعينه على تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها.
وما دام ميدان البلاغة العربية قاصرا على البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل، وما دمنا نحاول دراسة علم المعاني الذي هو أحد علوم البلاغة العربية، فإن الأمر يستأدينا قبل الانتقال إلى مباحث هذا العلم تفصيلا أن نستكمل الكلام عن الفصاحة والبلاغة.
...
لقد عرفنا مما سبق حد كل من الفصاحة والبلاغة، وخلاصته أن الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، فيقال: لفظة فصيحة، وكلام فصيح، ورجل فصيح. أما البلاغة فيوصف بها الكلام والمتكلم فقط، فيقال: كلام بليغ، ورجل بليغ. وبين الاثنين عموم وخصوص مطلق،
فالفصاحة أعم والبلاغة أخص، فكل فصيح بليغ، وليس كل بليغ فصيحا.
وتتمثل فصاحة اللفظ أو المفرد في خلوه من ثلاثة أمور: تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس.
فتنافر الحروف هو في مثل لفظة «مستشزرات» من قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا  تضل العقاص في مثنّى ومرسل
فالشاعر هنا يصف غزارة شعر حبيبته، فيقول: إن حبيبته لكثرة شعرها بعضه مرفوع، وبعضه مثنى، وبعضه مرسل، وبعضه معقوص ملوى بين المثنى والمرسل.
وموضع الشاهد على التنافر هنا هو لفظة «مستشزرات» بمعنى «مرتفعات» فهي لفظة مستكرهة لثقلها على اللسان وعسر النطق بها. فتنافر الحروف فيها أدى إلى ثقلها وصعوبة التلفظ بها، وهذا بدوره أنقص من فصاحتها وقلل من فصاحة البيت وجماله. ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة في اللفظ سوى الذوق السليم المكتسب بطول النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم.
وغرابة اللفظ أو المفرد مثل لفظة «مسرجا» بتشديد الراء التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج يقول فيها:
والسخط قطاع رجاء من رجا  أزمان أبدت واضحا مفلّجا
أغر براقا وطرفا أبرجا  ومقلة وحاجبا مزججا
وفاحما ومرسنا مسرّجا  وكفلا وعثا إذا ترجرجا
فالفاحم هنا الأسود، وأراد به الشاعر شعرا أسود فاحما، والمرسن الأنف الذي يشد بالرسن ثم استعير لأنف الإنسان، أما مسرجا وهي اللفظة الغريبة هنا فمختلف في تخريجها، فقيل من سرّجه تسريجا، أي حسّنه وبهّجه، وقيل من قولهم: سيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له سريج، شبه بها (السيوف) الأنف في الدقة والاستواء، وقيل من السراج، وهو قريب من قولهم: سرج وجهه بكسر الراء أي حسن، والزجج دقة الحاجبين.
والمعنى أن لهذه المرأة الموصوفة ثنايا بيضاء مفلجة، ومقلة واسعة حسنة سوداء، وحاجبا مدققا مقوسا، وشعرا أسود فاحما، وأنفا كالسيف السريجي في دقته واستوائه، أو كالسراج في بريقه وضيائه. وشاهد الغرابة فيه هو في لفظة «مسرجا» للاختلاف في تخريجها. فاللفظة إذا دلت على أكثر من معنى، واختلف في تحديد المعنى المراد منها في موضعها فإنها تكتسب بذلك صفة الغرابة التي تنتقص من درجة فصاحتها.
أما مخالفة القياس فمثل لفظة «الأجلل» التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة أيضا لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، أحد رجاز الإسلام والتي منها:
الحمد لله العلي الأجلل  الواهب الفضل الوهوب المجزل
أعطى فلم يبخل ولما يبخل
فالشاهد هنا هو مخالفة القياس اللغوي في قوله «الأجلل» إذ القياس القياس «الأجل» بالادغام. هذا كله بالنسبة إلى فصاحة المفرد.
أما فصاحة الكلام أو التركيب فتتمثل في خلوصه، وسلامته من ثلاثة أمور أيضا هي: ضعف التأليف، وتنافر الألفاظ، والتعقيد لفظيا ومعنويا مع فصاحة المفردات التي يتألف منها.
فضعف التأليف في الكلام خروجه عن قواعد اللغة المطردة كرجوع الضمير على متأخر لفظا ورتبة في قول حسان بن ثابت:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا  من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
فالضمير في «مجده» يعود إلى «مطعما» وهو متأخر في اللفظ كما نرى في البيت، وفي الرتبة لأنه مفعول به، ورتبة المفعول متأخرة على رتبة الفاعل.
فالبيت لهذا غير فصيح.
وتنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب، يعني أن يسبب اتصال بعض ألفاظ الكلام ببعض ثقلا على السمع وصعوبة في النطق بها، لأن النطق بالحروف المتقاربة في مخارجها أشبه بالمشي المقيد. ومثال ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر  وليس قرب قبر حرب قبر
ويقال إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات متواليات دون أن يتعتع (1)، أي يتلعثم. والسبب بطبيعة الحال واضح، لأن اجتماع كلمات البيت وقرب مخارج حروفها، يحدثان ثقلا ظاهرا على اللسان والسمع معا، مع أن كل لفظة أو مفردة منه لو أخذت وحدها كانت غير مستكرهة ولا ثقيلة.
__________
(1) انظر شرح شواهد التلخيص ص: 13.

ومن تنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب أيضا قول أبي تمام، حبيب ابن أوس الطائي، من قصيدة له يمدح بها أبا الغيث موسى بن إبراهيم ويعتذر إليه:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى  معي، وإذا ما لمته لمته وحدي
فالتنافر هنا قد ولّده ما في قوله «أمدحه» من الثقل لقرب مخرج الحاء، من مخرج الهاء، لأن مخارج الحروف كلما قربت كانت الألفاظ مكدودة قلقة غير مستقرة في أماكنها، وإذا بعدت كانت بعكس الأول. ولهذا لم يوجد في كلام العرب اجتماع العين مع الغين ولا مع الحاء ولا مع الخاء، ولا اجتماع الطاء مع التاء حذرا من عسر النطق. وفي البيت أيضا ثقل آخر من جهة التكرار في «أمدحه» و «لمته».
ومن قبيح التنافر الناشئ عن التكرار قول الشاعر:
وازورّ من كان له زائرا  وعاف عافي العرف عرفانه (1)
__________
(1) ازور عن الشيء: انحرف عنه وعدل. عاف: كره. عافي العرف: المحتاج إلى المعروف.
العرف والعرفان: المعروف.

كذلك يشترط في فصاحة الكلام أو التركيب أن يسلم من التعقيد اللفظي الذي يترتب عليه خفاء الدلالة على المعنى المراد في الكلام بسبب تأخير الكلمات أو تقديمها عن مواطنها الأصلية، أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاوز ويتصل بعضها ببعض، وذلك كقول الفرزدق من قصيدة يمدح بها إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان:
ما مثله في الناس إلا مملكا  أبو أمه حيّ أبوه يقاربه
فالبيت كما ترى غير فصيح لضعف تأليفه الناشئ عن تعقيد ألفاظه وصعوبة استخلاص معناه. فالمعنى الذي حاول الفرزدق أن يعبر عنه في هذا البيت هو: وما مثله- يعني الممدوح- في الناس حي يقاربه- أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا- يعني هشام بن عبد الملك بن أخت الممدوح- أبو أمه- أي أبو أم هشام- أبوه- أي أبو الممدوح. فالضمير في «أمه» للمملّك، وفي «أبوه» للمدوح.
فالشاعر في البيت قد فصل بين «أبو أمه» وهو مبتدأ، و «أبوه» وهو خبر المبتدأ بأجنبي وهو «حي». وكذلك فصل بين النعت والمنعوت «حي يقاربه» بأجنبي وهو «أبوه»، ثم قدم المستثنى وهو «مملكا» على المستثنى منه، وهو «حي يقاربه».
فنظم البيت كما نرى في غاية التعقيد اللفظي، وكان من حق الناظم أن يقول: وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه. فالخلل في نظم كلمات البيت بالتقديم والتأخير، وبالفصل بين الكلمات التي يجب تجاورها واتصال بعضها ببعض قد جعل الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد.
وكما يشترط في فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد اللفظي فإنه يشترط فيه كذلك أن يسلم من التعقيد المعنوي، وهو استعمال الكلمات عند إرادة التعبير عن معنى خاص في غير معانيها الحقيقية، وبذلك يضطرب التعبير، ويصعب الوصول إلى المعنى المراد. مثال ذلك قول العباس ابن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا  وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
فالمعنى الذي قصد الشاعر التعبير عنه في هذا البيت هو: أطلب وأريد البعد عنكم أيها الأحبة لتقربوا، إذ من عادة الزمان الإتيان بضد المراد، فإذا أريد البعد يأتي الزمان بالقرب، وكذلك أطلب الحزن الذي هو لازم البكاء ليحصل السرور بما هو من عادة الزمان.
فالشاعر أراد هنا أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود هو خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر. وقد أخطأ الشاعر في مراده إذ جمود العين هو خلوها من الدمع أو بخلها بالدمع الذي هو لازم البكاء عند إرادة البكاء منها، كقول أبي عطاء يرثى ابن هبيرة:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط  عليك بجاري دمعها لجمود
إذن فالجمود لا يكون كناية عن السرور بل عن البخل، وبهذا يكون الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع، لا إلى ما قصده الشاعر من السرور.
فالشاعر، كما نرى، استعمل الكلمات في غير معانيها الحقيقية، أو بعبارة أخرى لم يكن موفقا في اختيار الكلمات المعبرة عن معناه تعبيرا جليا واضحا، ومن ثم عقد المعنى أو وقع في التعقيد المعنوي الذي أخلّ بفصاحة البيت.
ولعلنا أدركنا على ضوء هذا الشرح كيف أن فصاحة الكلام لا تتأتى إلا إذا سلم من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد اللفظي والمعنوي. أما الفصاحة في المتكلم فملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح.
...
الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة



0 Response to " الفصاحة والبلاغة والاسلوب"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel