بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الفصل والوصل

الفصل والوصل 

من أسرار البلاغة العلم بمواطن الوصل والفصل في الكلام، أو بعبارة أخرى العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها، والإتيان بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد الأخرى.

وإدراك مواطن الوصل والفصل في الكلام لا تتأتى إلا للعرب الخلّص لأن اللغة لغتهم وهم ينطقون بها عن سليقة، كما لا تتأتى إلا لمن طبعوا على البلاغة وأوتوا حظا من المعرفة في ذوق الكلام.
وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدا للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: «البلاغة معرفة الفصل من الوصل»، وذاك لغموض هذا الباب ودقة مسلكه، ولأن من يكمل له إحراز الفضيلة فيه يكمل له إحراز سائر معاني البلاغة.
«والوصل» يعني عند علماء المعاني عطف جملة على أخرى «بالواو» فقط من دون سائر حروف العطف الأخرى، كقول المتنبي:
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح  وخير جليس في الزمان كتاب (1)
__________
(1) الدنا: جمع دنيا، والسابح: الفرس السريع الجري، يقول: سرج الفرس أعز مكان لأن صاحبه يجاهد عليه في طلب المعالي، والكتاب خير جليس لأنه مأمون الأذى.

ويقصد علما المعاني «بالفصل» ترك هذا العطف، كقول الشاعر:
عادة الأيام لا أنكرها  فرح تقرنه لي بترح
وقد قصر علماء المعاني عنايتهم في هذا الباب على البحث في عطف الجمل «بالواو» دون بقية حروف العطف كما أشرت سابقا، لأن «الواو» هي الأداة التي تخفى الحاجة إليها ويتطلب فهم العطف بها دقة في الإدراك.
وسبب ذلك أنها لا تدل إلا على مطلق الجمع والاشتراك، أما غيرها من أحرف العطف فتفيد مع الاشتراك معاني زائدة كالترتيب مع التعقيب في الفاء، والترتيب مع التراخي في «ثم» وهلم جرا. فإذا عطفت بواحد منها ظهرت الفائدة وسهل إدراك موطنها.
وبعد ...فلكل من الفصل والوصل بالواو في الكلام مواضع خاصة تدعو إليها الحاجة ويقتضيها المقام. والآن نعرض بالشرح والتفصيل لهذه المواضع بادئين بالفصل.

مواضع الفصليجب الفصل في ثلاثة مواضع:

1 - أن يكون بين الجملتين اتحاد تام، وذلك بأن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى، أو بيانا لها، أو بدلا منها. ويقال حينئذ إن بين الجملتين «كمال الاتصال».
أ- فمن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية توكيدا للجملة الأولى قول الشاعر:
يهوى الثناء مبرّز ومقصر  حب الثناء طبيعة الإنسان
فالبيت هنا يشتمل على جملتين، وإذا تأملناهما وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى، فالجملة الثانية وهي «حب الثناء طبيعة الإنسان». لم تجيء إلا توكيدا للأولى وهي جملة «يهوى الثناء مبرز ومقصر»، فإن معنى الجملتين واحد.
ومن أمثلة هذا النوع أيضا قول المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي  إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فإذا تدبرنا جملتي البيت وجدنا بينهما كذلك اتحادا تاما في المعنى، فالجملة الثانية وهي «إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا» لم تجيء في الواقع إلا توكيدا للجملة الأولى وهي «وما الدهر إلا من رواة قصائدي» لأن معنى الجملتين واحد.
ب- ومن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية بيانا للجملة الأولى قول الشاعر:
كفى زاجرا للمرء أيام دهره  تروح له بالواعظات وتغتدي
فإذا تدبرنا جملتي البيت وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى، فالجملة الثانية وهي «تروح له بالواعظات وتغتدي» لم تجيء في الواقع إلا لإيضاح إبهام جملة «كفى زاجرا للمرء أيام دهره» فهي بيان لها.
ومن أمثلة هذا النوع كذلك قول الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة  بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فإذا تأملنا جملتي هذا البيت وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى، فالجملة الثانية وهي «بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم» لم تأت إلا لإيضاح إبهام الأولى وهي «الناس للناس من بدو وحاضرة» فهي بيان لها.
ج- ومن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية بدلا من الجملة الأولى قوله تعالى: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
فالتأمل في الآية الكريمة يظهر أن بين جملة أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ وجملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ كمال الاتصال، ذلك لأن الجملة الثانية بدل بعض من كل من الجملة الأولى، إذ الأنعام والبنون والجنات والعيون بعض ما يعلمون.
ومن أمثلة هذا النوع أيضا قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ. فالجملة الثانية هنا وهي يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بدل بعض من كل من الأولى لأن تذبيح الأبناء بعض ما يسومونهم ويحمّلونهم إياه من سوء العذاب.
فالجملة الثانية في كل مثال من الأمثلة السابقة مفصولة عن الجملة الأولى، ولا سبب لهذا الفصل سوى ما بينهما من تمام التآلف وكمال الاتحاد. ومن أجل ذلك يقال إن بين الجملتين «كمال الاتصال».
...

2 - والموضع الثاني من المواضع التي يجب فيها الفصل بين الجمل هو: أن يكون بين الجملتين «تباين تام»، وذلك بأن تختلفا خبرا وإنشاء، أو بألا تكون بينهما مناسبة ما، ويقال حينئذ إن بين الجملتين «كمال الانقطاع».
أ- فمن الأمثلة التي يجب فيها الفصل بين الجملتين لاختلافهما خبرا وإنشاء قول الشاعر:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله  لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فبين الجملة الثانية والأولى في هذا البيت تمام التباين وغاية الابتعاد، لاختلافهما خبرا وإنشاء، وذلك لأن الجملة الأولى إنشائية والثانية خبرية، ومن أجل ذلك تعين الفصل بينهما.
ومن أمثلة هذا النوع أيضا قول الشاعر:
لست مستمطرا لقبرك غيثا  كيف يظمأ وقد تضمن بحرا؟
فالجملة الأولى هنا خبرية والثانية إنشائية، فبينهما تمام التباين ومنتهى الابتعاد، ولهذا تعين الفصل بينهما لاختلافهما خبرا وإنشاء.
ب- ومن الأمثلة التي يجب فيها الفصل بين الجملتين لعدم وجود مناسبة بينهما قول القائل: «كفى بالشيب داء صلاح الإنسان حفظ الوداد» فبين الجملتين كما ترى تباين تام، إذ لا مناسبة بينهما في المعنى.
وهذا الحكم ينطبق على كل جملتين لا تكون بينهما مناسبة ما كقولك:
«السماء ممطرة عليّ يغدو إلى عمله مبكرا»، وكقول الشاعر:
وإنما المرء بأصغريه  كل امرئ رهن بما لديه (1)
فبين الجملة الثانية هنا والجملة الأولى تمام التباين ومنتهى الابتعاد، لأنه لا مناسبة بينهما مطلقا، إذ لا رابطة في المعنى بين قوله: «وإنما المرء بأصغريه» وقوله: «كل امرئ رهن بما لديه» ففي جميع هذه الأمثلة والأمثلة التي تختلف فيها الجملتان خبرا وإنشاء نجد الجملة الثانية مفصولة عن الجملة الأولى، ولا سر لذلك إلا كمال التباين
وشدة التباعد، ولذلك يقال في هذا الموضع من مواضع الفصل إن بين الجملتين «كمال الانقطاع».
...

3 - والموضع الثالث من المواضع التي يجب فيها الفصل بين الجملتين هو أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى، ويقال حينئذ إن بين الجملتين «شبه كمال الاتصال».
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ (2)، ففي هذه الآية الكريمة فصلت جملة قالُوا لا تَخَفْ عن جملة وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً لأن بينهما شبه كمال الاتصال، إذ الثانية جواب لسؤال يفهم من الأولى، كأن سائلا سأل: فماذا قالوا له حين رأوه قد أحس منهم خوفا؟ فأجيب «قالوا لا تخف».
__________
(1) الأصغران: القلب واللسان، ورهن بما لديه: يجازى بما عمل.
(2) أوجس منهم خيفة: أحس منهم خوفا.

ومن أمثلة هذا النوع من الفصل أيضا قول الشاعر:
يقولون إني أحمل الضيم عندهم  أعوذ بربي أن يضام نظيري (3)
__________
 (3) الضيم: الذل، وضامه يضيمه بفتح ياء المضارعة: أذله يذله.

فبين جملة «أعوذ بربي أن يضام نظيري» وجملة «يقولون إني أحمل الضيم عندهم» شبه كمال الاتصال، لأن الثانية جواب عن سؤال نشأ من الأولى، فكأن الشاعر بعد أن أتى بالشطر الأولى من البيت أحس أن سائلا يقول له: «وهل ما يقولونه من أنك تتحمل الضيم صحيح؟» فأجاب بالشطر الثاني.
ففي هذين المثالين نرى أن الجملة الثانية في كليهما مفصولة من الأولى، ولا سبب لهذا الفصل إلا قوة الرابطة المعنوية بين الجملتين، فإن الجواب شديد الارتباط بالسؤال، فأشبهت الحال هنا من بعض الوجوه حال «كمال الاتصال» السابقة الذكر. ومن أجل ذلك يقال إن بين الجملتين «شبه كمال الاتصال».
...

تلك هي مواضع الفصل الثلاثة بين الجمل في الكلام، وفيما يلي تجميع للقواعد التي تحكمها.
أ- الوصل عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل ترك هذا العطف.
ب- يجب الفصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع:
1 - أن يكون بين الجملتين اتحاد تام، وذلك بأن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى، أو بيانا لها، أو بدلا منها. وفي هذه الأحوال الثلاثة يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «كمال الاتصال».
2 - أن يكون بين الجملتين تباين تام، وذلك بأن يختلفا خبرا وإنشاء، أو بألا تكون بينهما أي مناسبة معنوية. وفي هاتين الحالتين يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «كمال الانقطاع».
3 - أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى.
وفي هذه الحالة يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «شبه كمال الاتصال».
وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة الفصل يستطيع الدارس أن يتبين مواضعها وموجبات الفصل فيها على ضوء الشرح السابق.
1 - قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بربهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
2 - وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ.
3 - وقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.
4 - وقال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً.
5 - أصون عرضي بمالي لا أدنسه  لا بارك الله بعد العرض في المال
6 - أعلمت من حملوا على الأعواد؟  أعلمت كيف خبا ضياء النادي؟
7 - الرأي قبل شجاعة الشجعان  هو أول وهي المحل الثاني
8 - حسب الخليلين نأي الأرض بينهما  هذا عليها وهذا تحتها بالي (1)
9 - يا من يقتّل من أراد بسيفه  أصبحت من قتلاك بالإحسان
10 - لا يعجبنك إقبال يريك سنا  إن الخمود لعمري غاية الضرم (2)
11 - لا تسأل المرء عن خلائقه  في وجهه شاهد من الخبر
12 - أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا  وإلا فكن في السر والجهر مسلما
13 - قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل  سهر دائم وحزن طويل
14 - يا واردا سؤر عيش كلّه كدر  أنفقت عمرك في أيامك الأول (3)
15 - إن نيوب الزمان تعرفني  أنا الذي طال عجمها عودي (4)
__________
(1) حسب الخليلين: كفاهما، والنأي: البعد، والبالي: الفاني والممزق، يقول: كفاني وأخي حيلولة الأرض بيننا، فأنا حي فوقها، وهو بالي الجسم تحتها، وهذا نهاية البعد. البيت قاله النابغة في رثاء أخ له.
(2) السنا: ضوء البرق، وخمود النار: سكون لهبها، والضرم: اشتعال النار والتهابها.
(3) سؤر العيش: بقيته.
(4) عجم العود: عضه ليعرف أصلب هو أم رخو.

16 - لا الدمع غاض ولا فؤادك سال  دخل الحمام عرينة الرئبال (1)
17 - وما أنا بالباغي على الحب رشوة  ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
18 - ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا  إن السماء ترجى حين تحتجب (2)
19 - من يهن يسهل الهوان عليه  ما لجرح بميت إيلام
20 - لا تنكري عطل الكريم من الغنى  السيل حرب للمكان العالي
21 - بعيد عن الخلان في كل بلدة  إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
22 - زعم العواذل أنني في غمرة  صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
23 - ونحن أناس لا توسط عندنا  لنا الصدر دون العالمين أو القبر
__________
(1) الحمام: الموت، وعرينة الأسد: مأواه، والرئبال: الأسد.
(2) المراد بالحجاب احتجاب الممدوح عن قصاده، مقص: مبعد، وتحتجب: تختفي تحت الغيوم.

مواضع الوصل

ويجب الوصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع أيضا:
أ- إذا قصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي. وتفصيل ذلك أنه إذا أتت جملة بعد جملة وكان للأولى محمل من الإعراب وقصد تشريك الثانية لها في هذا الحكم فإنه يتعين في هذه الحالة عطف الثانية على الأولى بالواو، تماما كما يعطف مفرد على مفرد بالواو لاشتراكهما في حكم إعرابي واحد.
وفيما يلي طائفة من الأمثلة لهذا الموضع من مواضع الوصل:
1 - أنت أيقظتني وأطلعت عيني  على عالم من السر أخفى
2 - وما زلت مذ كنت تولي الجميل  وتحمي الحريم وترعى النسب
3 - وللسر مني موضع لا يناله  نديم ولا يفضي إليه شراب (3)
4 - وأبطأ عني والمنايا سريعة  وللموت ظفر قد أطلّ وناب
__________
 (3) النديم: الجليس على الشراب، ويفضي: ينتهي. يقول: إنه كتوم للسر يضعه حيث لا يطلع عليه النديم ولا يكشف عنه الشراب.

تأمل في البيت الأول الجملتين «أيقظتني» و «أطلعت عيني على عالم من السر أخفى» تجد أن للجملة الأولى موضعا من الإعراب لأنها خبر للمبتدأ قبلها، وأن الشاعر أراد إشراك الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي، أي أراد أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ، ولهذا تعين عطف الثانية على الأولى بواو العطف.
وإذا تأملت الجملتين «تولي الجميل» و «تحمي الحريم» في البيت الثاني وجدت أن للأولى موضعا من الإعراب، لأنها خبر للفعل الناسخ «ما زال» وأن الشاعر أراد هنا أيضا إشراك الثانية وهي «تحمي الحريم» للأولى في حكمها الإعرابي، أي أراد أن تكون خبرا ثانيا للفعل «ما زال»، ومن أجل ذلك تعين وصل الجملة الثانية بالأولى بواو العطف.
وإذا تدبرنا الجملتين «لا يناله نديم» و «لا يفضي إليه شراب» في البيت الثالث وجدنا أن للأولى موضعا من الإعراب لأنها صفة للنكرة قبلها وهي كلمة «موضع»، وأن الشاعر أراد إشراك الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي، ولهذا وصلها بها أو عطفها عليها بالواو.
وإذا تدبرنا الجملتين «والمنايا سريعة» و «للموت ظفر قد أطل وناب» في البيت الرابع والأخير وجدنا أن للأولى منهما موضعا من الإعراب، لأنها تقع في موضع حال من فاعل «أبطأ»، وأن الشاعر أراد إشراك الجملة الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي، ولهذا وصلها بها بحرف العطف الواو.
وكذلك يجب الوصل بين كل جملتين على هذا النحو، أي بين كل جملتين قصد إشراكهما في حكم إعرابي واحد.
...

ب- ويجب الوصل بين الجملتين إذا اتفقتا خبرا أو إنشاء، وكانت بينهما جهة جامعة، أي مناسبة تامة، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما.
وفيما يلي طائفة من أمثلة هذا الموضع الثاني من مواضع الوصل:
1 - قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ.
2 - ديارهمو انتزعناها انتزاعا  وأرضهمو اغتصبناها اغتصابا
3 - وما كل فعّال يجازى بفعله  ولا كل قوّال لديّ يجاب
4 - فلا تترك الأعداء حولي ليفرحوا  ولا تقطع التسآل عني وتقعد
5 - فليتك تحلو والحياة مريرة  وليتك ترضى والأنام غضاب
6 - وما أنس دار ليس فيها مؤانس؟  وما قرب قوم ليس فيهم مقارب؟
...

ففي الأمثلة الثلاثة الأولى هنا اشتمل كل مثال منها على جملتين متحدتين خبرا متناسبتين في المعنى وليس هناك من سبب يقتضي الفصل، ولذلك عطفت الجملة الثانية على الأولى في كل منها بواو العطف.
وفي الأمثلة الأخيرة اشتمل كل واحد منها على جملتين متحدتين إنشاء متناسبتين معنى، وليس هناك من سبب أيضا يقتضي الفصل، ولذلك عطفت الثانية على الأولى.
وهكذا يجب الوصل بين كل جملتين اتحدتا خبرا أو إنشاء، وتناسبتا في المعنى، ولم يكن هناك مانع من العطف.
...

ج- ويجب الوصل بين الجملتين إذا اختلفتا خبرا وإنشاء وأوهم الفصل خلاف المقصود. وهذا هو الموضع الثالث من مواضع الوصل.
وتتمثل شواهد هذا النوع من الوصل في الإجابة بالنفي على سؤال أداته «هل» أو «همزة التصديق» مع التعقيب على جملة الجواب المنفي بجملة دعائية. ومن أمثلة ذلك:
1 - لا ولطف الله به. تقول ذلك في جواب من سألك: هل تحسنت صحة صديقك؟.
2 - لا وحفظك الله. تقول ذلك في جواب من سألك: ألك حاجة أقضيها لك؟.
ف «لا» في هذا الموضع قائمة مقام جملة خبرية تقديرها في المثال الأولى «لم تتحسن صحته» وتقديرها في المثال الثاني «لا حاجة لي»، وكل من جملتي «لطف الله به» و «حفظك الله» جملة دعائية إنشائية. وقد كان الأمر يقتضي هنا الفصل بين الجملتين لاختلافهما خبرا وإنشاء، فيقال في المثال الأول «لا لطف الله به» وفي الثاني «لا حفظك الله». ولكن الفصل على هذه الصورة يجعل السامع يتوهم أنك تدعو عليه في حين أنك تقصد الدعاء له. ولذلك وجب العدول هنا عن الفصل إلى الوصل. وكذلك الحال في كل جملتين اختلفتا خبرا وإنشاء وكان العطف بينهما يوهم خلاف المقصود.
وفيما يلي تلخيص وتجميع للقواعد التي تحكم مواضع الوصل: يجب الوصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع:
الأول- إذا قصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي.
الثاني- إذا اتفقت الجملتان خبرا أو إنشاء، وكانت بينهما جهة جامعة، أي مناسبة (1) تامة، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما.
الثالث- إذا اختلفت الجملتان خبرا وإنشاء، وأوهم الفصل خلاف المقصود.
__________
(1) يقصد بالتناسب أن تكون بين الجملتين رابطة أو صلة تجمع بينهما، كأن يكون المسند إليه في الأولى له تعلق بالمسند إليه في الثانية، وكأن يكون المسند في الأولى مماثلا للمسند في الثانية أو مضادا له.
...

وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة الوصل يترك للدارس أمر التعرف إلى موضع الوصل في كل منها وموجبه.
1 - قال تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً.
2 - وقال تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي.
3 - رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ.
4 - وقال أبو بكر رضي الله عنه: «أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم».
5 - وشر عدويك الذي لا تحارب  وخير خليليك الذي لا تناسب
6 - سل عن شجاعتك وزره مسالما  وحذار ثم حذار منه محاربا
7 - وأسطو وحبي ثابت في قلوبهم  وأحلم عن جهالهم وأهاب
8 - ولست واجد شيء أنت عادمه  ولست غائب شيء أنت حاضره
9 - أعيا عليّ أخ وثقت بوده  وأمنت في الحالات عقبى غدره
10 - تسائلني: من أنت؟ وهي عليمة  وهل بفتى مثلي على حاله نكر؟
11 - فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا  وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
12 - لا وجعلني الله فداءك.
13 - لا وأيدك الله.
...

محسنات الوصل وعيوبه

من محسنات الوصل تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية، وتناسب الجملتين الفعليتين في المضي والمضارعة، وفي الإطلاق والتقييد إلا لمانع، كما في الأمثلة السابقة.
ولهذا لا يحسن العدول عن ذلك في الوصل إلا لغرض. ومن هذه الأغراض أن يقصد التجدد في إحدى الجملتين والثبات في الأخرى، كقولك: أقام محمد وأخوه مسافر. هذا إذا أردت أن إقامة محمد تتجدد وسفر أخيه ثابت مستمر، لأن الدلالة على التجدد تكون بالجملة الفعلية، وعلى الثبات بالجملة الاسمية.
ومن الأغراض أن يراد الإطلاق في إحدى الجملتين والتقييد في الأخرى كقوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. فالجملة الأولى هي: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ مطلقة، والجملة الثانية وهي: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ مقيدة، لأن الشرط «لو» مقيد للجواب فقضاء الأمر، أي قضاؤه بهلاكهم، مقيد بإنزال الملك.
ومن عيوب الوصل انعدام المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه، كقول أبي تمام:
لا والذي هو عالم أن النوى  صبر وأن أبا الحسين كريم
وإنما كان العطف في هذا البيت معيبا لأنه لا مناسبة في المعنى بين المعطوف والمعطوف عليه، إذ لا علاقة إطلاقا بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين.
ومن هذا القبيل أن يقال مثلا: علي تاجر وأحمد مريض فهذا العطف معيب قبيح، إذ لا مناسبة بين الجملتين ولا رابطة في المعنى بين تجارة علي ومرض أحمد.
ولو قيل مثلا: علي طبيب وأحمد ممرض لصح العطف لوجود رابطة تجمع بين الجملتين، وهي هنا التماثل بين المسندين فيهما.
...
الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة

  

0 Response to "الفصل والوصل"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel