بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

أحوال المسند والمسند إليه أولا الحذف

أحوال المسند والمسند إليه


والمسند والمسند إليه اللذان يمثلان جزأي الجملة أو ركنيها الأساسيين قد تلحقهما لأغراض بلاغية أحوال من الذكر والحذف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو التقييد، أو القصر، أو الخروج عن مقتضى الظاهر في المسند إليه وفي غيره، وفيما يلي بيان أهم هذه الأحوال:
...

الحذف

أ- حذف المسند إليه:

المسند إليه أحد ركني الجملة، بل هو الركن الأعظم لأنه عبارة عن الذات، والمسند كالوصف له، والذات أقوى في الثبوت من الوصف. وإذا كانت الإفادة تفتقر إلى كليهما فإن افتقارها وحاجتها إلى الدال منهما على الذات الثابتة أشد في الحاجة عند قصد الإفادة من الدال على الوصف العارض.
وحذف المسند إليه يتوقف على أمرين: أحدهما وجود ما يدل عليه عند حذفه من قرينة، والأمر الآخر وجود المرجح للحذف على الذكر. أما الأمر الأول وهو وجود القرينة الدالة على المسند إليه عند حذفه فمرجعه إلى علم النحو، وأما الأمر الثاني وهو المرجح لحذفه على ذكره فمرده إلى البلاغة.

ومعنى ذلك أنه توجد مقتضيات ودواع بلاغية ترجح حذف المسند إليه على ذكره. والمسند إليه الذي يكثر حذفه هو: المبتدأ أو الفاعل، وفيما يلي أهم الدواعي التي ترجح حذف كليهما.

دواعي حذف المسند إليه إذا كان مبتدأ:

1 - الاحتراز عن العبث: وذكر المسند إليه في الجملة ليس عبثا في الحقيقة لأنه ركن للإسناد، ولكن المراد هنا «بالاحتراز من العبث» أن ما قامت عليه القرينة وظهر عند المخاطب يعد ذكره عبثا من حيث أنه يقلل من قيمة العبارة بلاغيا.
فإذا تقرر ذلك قلنا إن المبتدأ يكثر حذفه لداعي الاحتراز عن العبث في المواضع التالية:
أ- إذا وقع المبتدأ الذي هو المسند إليه في جواب الاستفهام، نحو قوله تعالى في شأن الهمزة (1) اللمزة: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، أي هي نار الله الملتهبة التهابا شديدا. وقوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ «1»، أي هي نار حامية. وقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (2)، أي هم في سدر (3) مخضود وطلح منضود.
__________
(1) الهمزة: كثير الهمز والعيب في غيره، واللمزة: الكثير الطعن في غيره خفية، لينذبن: والله ليطرحن.
(2) أمه: المراد مرجعه الذي يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه، والهاوية: أصلها المكان المنخفض كثيرا، الذي لا يرجع من سقط فيه، والكلام هنا من قبيل التهكم، وماهيه؟:
أصلها: ما هي؟ والعرب تزيد هاء ساكنة على آخر الكلمة ويسمونها هاء السكت.
(3) السدر: هو شجر ثمره النبق، ولكنه ليس كما في الدنيا بل هو فاكهة تليق بالجنة، مخضود:
مقطوع الشوك ولم يبق إلا الثمر، وطلح منضود: موز متراكب بعضه. فوق بعض، والكلام هنا على سبيل التمثيل.

ب- وإذا وقع بعد الفاء المقترنة بجواب الشرط، نحو قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها،* أي فعمله لنفسه، وإساءته عليها. وقوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، أي فهم إخوانكم. وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، أي فهو طل.
ونحو قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ، أي فهو يئوس قنوط. ونحو قوله في شهود المداينة بالدين: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، أي فالشاهد رجل وامرأتان.
ج- وإذا وقع المبتدأ بعد القول وما اشتق منه، نحو قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (1)، أي أنا عجوز عقيم. وقوله تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، أي قالوا: القرآن أساطير الأولين. وقوله تعالى في أصحاب الكهف: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، أي يقولون: هم ثلاثة، ويقولون: هم خسمة، ويقولون: هم سبعة.
__________
(1) امرأته: امرأة إبراهيم عليه السّلام وهي «سارة»، في صرة بفتح الصاد وتشديد الراء: أي في صوت مرتفع بقولها: يا ويلتا الخ تعجبا، وصكت وجهها بتشديد الكاف: ضربت وجهها بأطراف أصابعها.

2 - ضيق المقام عن إطالة الكلام إما لتوجع وإما لخوف فوات فرصة. فمن أمثلة حذف المبتدأ لضيق المقام للتوجع قول الشاعر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل  سهر دائم وحزن طويل
أي قلت: أنا عليل. وهذا يصلح مثالا أيضا للمبتدأ المحذوف بعد القول.
ومن أمثلته أيضا قول الشاعر:
لم تبكين؟ من فقدت؟ فقالت  والأسى غالب عليها: حبيبي
أي قالت: الفقيد حبيبي.
ومن أمثلة حذف المبتدأ لضيق المقام من خوف فوات الفرصة قولك عند رؤية نار تنبعث فجأة من منزل مجاور: حريق. تريد: هذه حريق.
وكقولك عند رؤية شخص يعوم في البحر ثم يختفي في مائه ولا يظهر:
غريق. تريد: هذا غريق. وقول الصياد: غزال. يريد: هذا غزال.
3 - تيسير الإنكار عند الحاجة إلى الإنكار:
وتفصيل ذلك أنه قد تجد مواقف يصرح فيها المتكلم بذكر شيء ثم تدعوه اعتبارات خاصة إلى جحدها وإنكارها. مثال ذلك أن يذكر شخص بعينه في معرض الحديث عن الكرم والكرماء، فيبدي فيه أحد الحضور رأيه قائلا: بخيل شحيح. يريد: هو بخيل شحيح.
فحذف المبتدأ في هذا الموقف تقتضيه البلاغة، لأن في حذفه فرصة لصاحب الرأي أن ينكر نسبة هذا الرأي إلى نفسه. ولو أنه صرح بذكره فقال مثلا: فلان بخيل شحيح، لأقام البينة على نفسه بهذا التصريح ولما استطاع الإنكار.
4 - تعجيل المسرة بالمسند، كأن يلوح شخص بكأس فاز بها في مسابقة قائلا: جائزتي. يريد: هذه جائزتي. ونحو قول القائل: دينار. يريد: هذا دينار.
5 - إنشاء المدح أو الذم أو الترحم: فالمسند إليه إذا كان مبتدأ يترجح حذفه إذا قصد به إنشاء المدح أو الذم أو الترحم، وكان في الكلام قرينة تدل عليه.
فمن أمثلة حذفه لإنشاء المدح قولنا: «الحمد لله أهل الحمد» برفع «أهل»، أي هو أهل الحمد. ومنه قولهم، بعد أن يذكروا الممدوح، فتى من شأنه كذا وكذا، وأغرّ من صفته كيت وكيت، كقول الشاعر:
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي  أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه  ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
أي هو فتى ...الخ.
ومن أمثلة حذفه لإنشاء الذم «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» برفع الرجيم، أي هو الرجيم. ومنه قول الأقيشر في ذم ابن عم له موسر سأله فمنعه، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه ولطمه:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه  وليس إلى داعي الندى بسريع
حريص على الدنيا مضيع لدينه  وليس لما في بيته بمضيع
يريد: هو سريع إلى ابن العم، وهو حريص على الدنيا، وهو مضيع لدينه. ومن أمثلته في الترحم: اللهم ارحم عبدك المسكين برفع المسكين، أي: هو المسكين.

دواعي حذف المسند إليه إذا كان فاعلا:

والدواعي أو الأغراض التي تدعو المتكلم إلى حذف الفاعل كثيرة جدا، ولكنها على كثرتها لا تخلو من أن سببها إما أن يكون شيئا لفظيا أو معنويا.
فمن الدواعي اللفظية لحذف الفاعل القصد إلى الإيجاز في العبارة نحو قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، أي: بمثل ما عاقبكم المعتدي به، ولما كان في الكلام قرينة تدل على الفاعل، فقد اقتضت البلاغة حذفه مراعاة للإيجاز وإقامة المفعول مقامه.
ومنها المحافظة على السجع في الكلام المنثور نحو قولهم: من طابت سريرته حمدت سيرته؛ إذ لو قيل «حمد الناس سيرته» لاختلف إعراب الفاصلتين «سريرته وسيرته».
ومنها المحافظة على الوزن في الكلام المنظوم كما في قول الأعشى ميمون بن قيس:
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا  غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل (1)
__________
(1) التعليق: المحبة، وعرضا: أي من غير قصد مني، ولكنها عرضت لي فأحببتها وهويتها.

فالأعشى هنا قد بنى الفعل «علّق» ثلاث مرات للمجهول، لأنه لو ذكر الفاعل في كل مرة منها أو في بعضها لما استقام وزن البيت.
ومن الدواعي المعنوية لحذف الفاعل:
1 - كون الفاعل معلوما للمخاطب حتى لا يحتاج إلى ذكره له نحو قوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً، أي: خلق الله الإنسان ضعيفا.
2 - كون الفاعل مجهولا للمتكلم فلا يستطيع تعيينه للمخاطب، وليس في ذكره بوصف مفهوم من الفعل فائدة، وذلك كما تقول: «سرق متاعي»، لأنك لا تعرف ذات السارق، وليس في قولك «سرق السارق متاعي» فائدة زائدة في الإفهام على قولك «سرق متاعي».
وقوله تعالى أيضا: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فضله، أي: فإذا قضيتم الصلاة ...
3 - رغبة المتكلم في الإبهام على السامع، كقولك: تصدّق بألف دينار.
4 - ورغبة المتكلم في إظهار تعظيمه للفاعل: وذلك بصون اسمه عن أن يجري على لسانه، أو بصونه عن أن يقترن بالمفعول به في الذكر، كقولك: خلق الخنزير.
5 - رغبة المتكلم في إظهار تحقير الفاعل: بصون لسانه عن أن يجري بذكره، كمن يقول في وصف شخص يرضى الهوان والذل: «يهان ويذل فلا يغضب».
6 - خوف المتكلم من الفاعل أو خوفه عليه، كمن يقول: قتل فلان، فلا يذكر القاتل خوفا منه أو خوفا عليه.
7 - عدم تحقق غرض معين في الكلام بذكر الفاعل، نحو قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذي إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً،
قد بني الفعلان «ذكر وتلي» للمجهول لعدم تعلق الغرض بشخص الذاكر والتالي.
ونحو قول الفرزدق في مدح علي بن الحسين:
يغضي حياء ويغضي من مهابته  فلا يكلم إلا حين يبتسم
فبني الفعل «يغضي» الثاني للمجهول، لأن ذكر الفاعل هنا لا يحقق غرضا معينا في الكلام، لأن معرفة ذات المغضي لا تعني السامع.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن حذف الفاعل في جميع الأمثلة السابقة هو حذف للمسند إليه الحقيقي، وإن كان المسند إليه في اللفظ وهو نائب الفاعل مذكورا.
...

ب- حذف المسند:

وكما توجد دواع لحذف المسند إليه كذلك توجد دواع ترجح حذف المسند سواء أكان خبرا أو فعلا إذا دل عليه دليل. وفيما يلي بيان لأهم هذه الدواعي.

دواعي حذف المسند الخبر:

1 - الاحتراز من العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره، وهذا من شأنه أن يكسب الأسلوب قوة ويضفي عليه جمالا.
ويكثر حذف الخبر لهذا الداعي أو الغرض إذا جاءت الجملة التي يرد فيها الحذف جوابا عن استفهام علم منه الخبر، كأن يسألك سائل: من شاعر العربية الأكبر؟ فتجيب «أبو الطيب المتنبي» تريد: أبو الطيب المتنبي شاعر العربية الأكبر. وكأن يسأل آخر: من عندكم؟ فيجيب «ضيف» أي: عندنا ضيف. وكأن يسأل ثالث: ماذ في يدك؟ فيجيب «كتاب» يريد: في يدي كتاب.
كذلك يكثر حذف الخبر في الجملة الواقعة بعد «إذا» الفجائية على رأي من يعدها حرفا للمفاجأة، وكان الخبر المحذوف يدل على معنى عام يفهم من سياق الكلام نحو: خرجت من البيت وإذا العواصف، وسرت في الطريق وإذا المطر! أي: إذا العواصف شديدة، وإذا المطر نازل! فالخبر في هذين المثالين يدل على معنى عام هو الشدة في المثال الأول، والنزول في المثال الثاني، وكلاهما مفهوم من سياق الكلام.
ويكثر حذف الخبر أيضا إذا كانت الجملة المحذوفة الخبر معطوفة على جملة اسمية أو معطوفا عليها جملة اسمية والمبتدآن مشتركان في الحكم نحو قوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها؛ أي: وظلها دائم. وقوله تعالى أيضا:
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ أي: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل لكم.
ونحو قول الفرزدق:
وليس قولك من هذا بضائره  العرب تعرف من أنكرت والعجم
يريد: والعجم تعرف من أنكرت أيضا.
ونحو قول شاعر آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما  عندك راض والرأي مختلف
يريد: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض. وقد حذف خبر الجملة الاسمية الأولى لأنه عطف عليها بجملة اسمية أخرى والمبتدآن مشتركان في الحكم.
وداعي الحذف هنا هو الاحتراز عن العبث والقصد إلى الإيجاز مع ضيق المقام، ودلالة خبر المبتدأ الثاني على خبر المبتدأ الأول هو الذي جعل حذفه سائغا سهلا.

دواعي حذف المسند الفعل:

وأهم دواعي حذف المسند الفعل الاحتراز عن العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره أيضا. ويكثر ذلك في جواب الاستفهام، أي إذا جاءت الجملة المحذوفة المسند جوابا لسؤال محقق نحو قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ،* أي: ليقولون خلقهن الله.
كذلك إذا جاءت الجملة المحذوفة المسند جوابا لسؤال مقدر نحو قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه:

ليبك يزيد ضارع لخصومة  ومختبط مما تطيح الطوائح (1)
وذلك ببناء «ليبك» للمجهول، وكأن سائلا سأل: من يبكي يزيد؟
فأجيب: ضارع ومختبط، أي: ليبكه ضارع لخصومة، وليبكه مختبط ...
__________
(1) ضارع لخصومه: مستغيث من خصومة، والضارع: الضعيف من الرجال أيضا، والمختبط، طالب الرفد، والذي يسألك ويطلب معروفك من غير سابق معرفة ولا قرابة، ومما تطيح الطوائح: أي مما تلحق به الخطوب، والطائح: المشرف على الهلاك.

ج- حذف المفعول به:

والمفعول به قد يحذف لدواع وأغراض بلاغية، شأنه في ذلك شأن المسند إليه والمسند. ومن أهم هذه الدواعي والأغراض:
1 - إفادة التعميم مع الاختصار نحو قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ، أي يدعو جميع عباده، لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم.
وهذا التعميم يمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم كقولنا «يدعو جميع عباده» ولكن ذلك من شأنه أن يفوت مزية الاختصار أو الإيجاز.
2 - تنزيل الفعل المتعدي منزلة الفعل اللازم، وذلك لعدم تعلق الغرض بذكر المفعول، لأن المراد في مثل هذه الحالة هو إفادة مجرد ثبوت الفعل للفاعل أو نفيه، نحو قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟، فالمعنى: هل يستوي من لهم علم ومن لا علم لهم؟ بغض النظر عن المعلوم أيا كان نوعه.
ونحو قول البحتري:
إذا أبعدت أبلت وإن قربت شفت  فهجراتها يبلي ولقيانها يشفي
فهو لم يقل: أبلتني وشفتني لعدم تعلق غرض الشاعر بذكر المفعول، لأن ما يريد أن يعبر عنه هو أن إبعادها بلاء وداء وتقريبها شفاء.
3 - مجرد الاختصار أو الإيجاز: نحو قوله تعالى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ؛ أي: أرني ذاتك. ونحو: أصغيت إليه، أي أصغيت إليه أذني.
4 - تحقيق البيان بعد الإبهام، وذلك لتقرير المعنى في النفس.
ويكثر ذلك في فعل المشيئة أو الإرادة أو نحوهما إذا وقع فعل شرط فإن الجواب يدل عليه ويبينه، نحو قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، أي: ولو شاء الله ألا يقتتلوا أو عدم اقتتالهم ما اقتتلوا. فإنه لما قيل: «ولو شاء» علم السامع أن هناك شيئا تعلقت المشيئة الإلهية به لكنه خفيّ مبهم، فلما جيء بجواب الشرط صار بينا واضحا يقع في النفس.
ومثله قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ، أي: لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين. وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، أي: ولو شئنا هداية النفوس لآتينا كل نفس هداها.
وكذلك يكثر حذفه بعد نفي العلم ونحوه، كقوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: لا يعلمون أن وعد الله حق. وكقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ، أي: لا يعلمون أنهم سفهاء. وقوله تعالى أيضا: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليكم وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ، أي: لا تبصرون أننا أقرب إليكم.
ويكثر حذف المفعول به أيضا في الفواصل نحو «قلى» من قوله تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، ونحو «يخشى» من قوله تعالى أيضا: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى، ونحو «أعطى واتقى» من قوله تعالى كذلك: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، ونحو «يضرون» من قوله جل شأنه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟.
فحذف المفعول في هذه الأمثلة وما أشبهها هو للمحافظة على وحدة الحرف الأخير من الفواصل والذي ينزل في النثر المسجوع منزلة حرف الروي في الكلام المنظوم.
الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة



0 Response to "أحوال المسند والمسند إليه أولا الحذف"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel