بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

التورية في علم البديع وعلم المعاني

التورية : التورية في علم البديع وعلم المعاني

التورية من فنون البديع المعنوي، ويقال لها أيضا: الإيهام والتوجيه والتخيير، ولكن لفظة «التورية» أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمّى، لأنها مصدر ورّى بتضعيف الراء تورية، يقال: ورّيت الخبر:
جعلته ورائي وسترته وأظهرت غيره، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر.
والتورية في اصطلاح رجال البديع: هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان، قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد.

ونحن نجد لها أكثر من تعريف لدى المتأخرين، ولكن هذه التعريفات وإن اختلفت لفظا فإنها تتفق معنى، ولا تخرج جميعها في مضمونها عن مضمون التعريف السابق الذي اصطلح عليه جمهور البديعيين.
فزكي الدين بن أبي الأصبع «654 هـ» قد عرفها في كتابه المسمى «تحرير التحبير» بقوله: «التورية وتسمى التوجيه هي أن يكون الكلام يحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله».
والخطيب القزويني «739 هـ» يعرفها في كتابه التلخيص بقوله:
«ومن البديع التورية وتسمى الإيهام أيضا، وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد، وهي ضربان مجردة ومرشحة» ولم يزد على هذا القدر شيئا.
وصلاح الدين الصفدي «764 هـ» يعرفها في كتابه «فضّ الختام عن التورية والاستخدام» بقوله: «التورية هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين، قريب وبعيد، فيذكر لفظا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد».
وتقي الدين بن حجة الحموي «837 هـ» يعرّفها في كتابه «خزانة الأدب» بقوله: «التورية أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجاز، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد، ويورّى عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك، ولأجل هذا سمى هذا النوع إيهاما» (1).
...
__________

(1) انظر في كل هذه التعريفات كتاب خزانة الأدب لابن حجة الحموي 239 - 242.

ومن أمثلة التورية قول سراج الدين الورّاق (1):
أصون أديم وجهي عن أناس  لقاء الموت عندهم الأديب
ورب الشعر عندهم بغيض  ولو وافى به لهم «حبيب»
فالتورية في لفظة «حبيب»، ولها معنيان: أحدهما المحبوب، وهذا هو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة بسبب التمهيد له بكلمة «بغيض»، والمعنى الثاني اسم أبي تمام الشاعر وهو حبيب بن أوس، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر ولكنه تلطف فورّى عنه وستره بالمعنى القريب.
ومن أمثلتها أيضا قول بدر الدين الذهبي:
يا عاذلي فيه قل لي  إذا بدا كيف أسلو؟
يمر بي كل وقت  وكلما «مر» يحلو
فالتورية هنا كلمة «مرّ»، فإن لها معنيين: أحدهما أنها مأخوذة من المرارة وهو المعنى القريب بدليل مقابلتها بكلمة «يحلو»، وهذا المعنى القريب الظاهر غير مراد، والمعنى الثاني أنها مأخوذة من المرور، وهذا هو المعنى البعيد الذي يريده الشاعر.
ومنها كذلك قول بدر الدين الحمّاميّ:
جودوا لنسجع بالمدي  ح على علاكم سرمدا
فالطير أحسن ما تغر  د عند ما يقع الندى (2)
فالتورية هنا في كلمة «الندى»، فمعناها القريب الظاهر غير المراد هو ما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف، بدليل التمهيد له بذكر الطير والتغريد والوقوع، ومعناها البعيد هو الجود وهذا هو الذي أراده الشاعر.
__________
(1) شاعر مصري أولع بالبديع في شعره وتوفي سنة 659 هـ.
(2) من معاني الندى: الجود، وما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف.

وقوله أيضا:
أبيات شعرك كالقص  ور ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها  حرّ ومعناها «رقيق»
والتورية في هذا المثال هي كلمة «رقيق» ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد، وهو العبد المملوك، وسبب قربه وتبادره إلى الذهن ما سبقه من كلمة «حر»، والمعنى الثاني بعيد وهو اللطيف السهل الدّمث من المعاني. وهذا هو الذي يريده الشاعر بعد أن ستره وأخفاه في ظل المعنى القريب.
ومما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ (1). فلفظة التورية في الآية الكريمة هي جَرَحْتُمْ ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد وهو إحداث تمزّق في الجسم، والثاني بعيد خفي مراد وهو ارتكاب الذنوب واقترافها.
__________
(1) جرحتم: أصل معنى الجرح إحداث تمزق في الجسم، ولهذا سميت السباع جوارح لأنها تجرح.

ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية وأنها تتمثل دائما في لفظ مفرد له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد.
ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية، وأن القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين: أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد ويورّى عنه بالمعنى القريب، فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك. ولهذا سمي هذا النوع إيهاما.
...

أنواع التورية:والتورية أربعة أنواع: مجردة، ومرشحة، ومبيّنة، ومهيّأة.

1 - التورية المجردة: وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورّى به، وهو المعنى القريب، ولا من لوازم المورّى عنه، وهو المعنى البعيد.

وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فكلمة التورية هي اسْتَوى والاستواء، كما يقول الزمخشري، على معنيين: أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب المورّى به غير المقصود، والثاني الاستيلاء والملك، وهو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو المراد، لأن الحق سبحانه منزّه عن المعنى الأول. ولم يذكر من لوازم هذا أو ذاك شيء، فالتورية مجردة بهذا الاعتبار.
ومن هذا النوع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في خروجه إلى بدر، وقد قيل له:
ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل، فقال: «من ماء»، وأراد: أنا مخلوقون من ماء. فورّى عنه بقبيلة من العرب يقال لها: ماء.
ومن ذلك قول أبي بكر الصديق في الهجرة عند ما سأله سائل عن النبي قائلا: «من هذا؟» فقال أبو بكر: «هاد يهديني». أراد أبو بكر هو هاد يهديني إلى الإسلام فورّى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر.
ومنه شعرا قول القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت فيه الأرض:
كأن نيسان أهدى من ملابسه  لشهر كانون أنواعا من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت  فما تفرّق بين الجدي والحمل (1)
__________
(1) من معاني الغزالة: الشمس.

فالتورية هنا مجرّدة، والشاهد في الغزالة والجدي والحمل، فإن الشاعر لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئا من لوازم المورّى به، كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية من طول العنق، وسرعة الالتفات، وسرعة النفرة، وسواد العين، ولا من أوصاف المورّى عنه كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية من الإشراق والسمو والطلوع والغروب.

2 - والتورية المرشحة: هي التي يذكر فيها لازم المورّى به، وهو المعنى القريب، وسميت مرشحة لتقويتها بذكر لازم المورى به. ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية وتارة بعده، فهي بهذا الاعتبار قسمان:

أ- فالقسم الأول منها: هو ما ذكر لازمه قبل لفظ التورية. وأعظم أمثلته قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ فإن قوله: بِأَيْدٍ يحتمل اليد الجارجة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح «البنيان»، ويحتمل القوة وعظمة الخالق، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو المراد لأن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول.
ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة:
فلما نأت عنا العشيرة كلّها  أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهة  ولا نحن أغضينا الجفون على وقر
فالشاهد لفظة «الجفون» فإنها تحتمل جفون العين، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، وقد تقدم لازم من لوازمه على جهة الترشيح وهو «الإغضاء» لأنه من لوازم العين، وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها، وهذا هو المعنى البعيد المراد المورى عنه.
ب- والقسم الثاني: هو ما ذكر لازم المورى به بعد لفظ التورية.
ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر:
مذ همت من وجدي في خالها  ولم أصل منه إلى اللثم (1)
قالت: قفوا واستمعوا ما جرى  خالي قد هام به عمي!
فلفظة التورية هنا «خالها» فإنها تحتمل خال النسب وهو المعنى القريب المورّى به وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو «العم»، وتحتمل أن تكون الشامة السوداء التي تظهر غالبا في الوجه وتكون علامة حسن، وهذا هو المعنى البعيد الخفيّ المورّى عنه.
__________
(1) من معاني الخال: خال النسب وهو أخو الأم، والخال الذي يكون في الجسد، وهو شامة أو نكتة سوداء في البدن، وأكثر ما يكون في الوجه، وهو علامة حسن وإن لم يكن هو حسنا في ذاته.

3 - التورية المبيّنة: وهي ما ذكر فيها لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية أو بعده. فهي بهذا الاعتبار قسمان:

أ- فالقسم الأول: ما ذكر لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية، واستشهدوا عليه بقول البحتري:
ووراء تسدية الوشاح ملية  بالحسن تملح في القلوب وتعذب
فالشاهد هنا في «تملح» فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي صد العذوبة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به وغير المراد، ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد. وقد تقدم من لوازمه على التبيين «مليّة بالحسن».
ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول شرف الدين بن عبد العزيز:
قالوا: أما في جلق نزهة  تنسيك من أنت به مغرى
يا عاذلي دونك من لحظه  سهما ومن عارضه سطرا
الشاهد هنا في موضعين وهما «السهم وسطر» فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمتنزهات دمشق، وذكر النزهة بجلّق قبلهما هو المبين لهما، وأما المعنى القريب غير المراد فسهم اللحظ وسطر العارض.
ب- والقسم الثاني، من التورية المبينة: هو الذي ذكر فيه لازم المورّى عنه بعد لفظ التورية. ومن أمثلته البديعة قول الشاعر:
أرى ذنب السّرحان في الأفق طالعا  فهل ممكن أن الغزالة تطلع؟
فالبيت فيه توريتان إحداهما «ذنب السرحان» فإنه يحتمل أول ضوء النهار، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو مراد الشاعر، وقد بيّنه بذكر لازمه بعده بقوله: «طالعا». ويحتمل ذنب الحيوان المعروف وهو الذئب أو الأسد، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والتورية الثانية في «الغزالة» فإنه يحتمل أن يكون المراد بها الشمس، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو مقصود الشاعر وقد بيّنه بذكر لازمه بعد بقوله:
«تطلع». ويحتمل أن يكون المراد بها الغزالة الوحشية المعروفة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والذي لم يقصده الشاعر.

4 - التورية المهيّأة: وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها، أو باللفظ الذي بعدها، أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر. فالمهيّأ على هذا الاعتبار ثلاثة أقسام.

أ- فالقسم الأول من التورية المهيأة: هو الذي تتهيأ فيه التورية من قبل. واستشهدوا على ذلك بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة:
وسيرك فينا سيرة عمرية  فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب
وأظهرت فينا من سميك سنة  فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
فالشاهد هنا في «الفرض والندب» وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه. ولولا ذكر «السنّة» لما تهيأت التورية فيهما ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية.
ب- والقسم الثاني من التورية المهيأة: هو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعده. ومن أمثلته نثرا قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأشعث بن قيس: «إنه كان يحوك «الشمال» (1) باليمين»، فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة وهي الكساء يشتمل به، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين ونقيض اليمين، وهذا هو المعنى القريب المورّى به. ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد.
__________
(1) الشمال: جمع شملة، وهي كساء يشتمل ويتلفع به.

ومن هذا النوع من التورية المهيأة شعرا قول الشاعر:
لولا التطير بالخلاف وأنهم  قالوا: مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي في جنابك خدمة  لأكون «مندوبا» قضى مفروضا
«فالمندوب» هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أحدا لأحكام الشرعية، وهو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر «المفروض» بعده لم يتنبّه السامع لمعنى المندوب، ولكنه لما ذكر تهيّأت التورية بذكره.
ج- والقسم الثالث من التورية المهيّأة: هو الذي تقع التورية فيه في لفظين لولا كل منهما لما تهيّأت التورية في الآخر. واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا  عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت  وسهيل إذا استقل يماني (1)
وموضع الشاهد هنا هو «الثريا وسهيل»، فإن «الثريا» يحتمل أن يكون الشاعر أراد بها بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أراد بها نجم الثريا، وهذا هو المعنى القريب المورى به. و «سهيل» يحتمل أيضا أن يكون سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وقيل كان رجلا مشهورا من اليمن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل أن يكون النجم المعروف بسهيل، وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر «الثريا» التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل. وكل واحد منهما صالح للتورية.
ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن التورية هنا لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبيّنة؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص. والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية، واللفظ الذي تترشح به، واللفظ الذي تتبيّن به- أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيّأة لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا، وأن اللفظ المرشح واللفظ المبين إنما هما مقويان للتورية، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة.
...
__________
(1) سبب نظم البيتين أن سهيلا المذكور تزوج الثريا المذكورة، وكان بينهما بون شاسع فالثريا مشهورة في زمانها بالجمال وسهيل مشهور بالعكس. وهذا مراد الناظم بقوله: «كيف يلتقيان؟»، وأيضا هي شامية الدار وسهيل يماني.

والتورية التي هي نوع من البديع المعنوي لم يتنبه لمحاسنها إلا المتأخرون من حذّاق الشعر وأعيان الكتاب. وهؤلاء نظروا إليها على أنها من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة، ولهذا نرى الكثيرين جدا من شعراء مصر والشام خاصة في القرن السادس والسابع والثامن للهجرة يتوسعون ويفتنون في استعمالها، ويأتون فيها بالعجيب الرائع الذي يدل على صفاء الطبع والقدرة على التلاعب في أساليب الكلام.
والقاضي الفاضل (1) «596 هـ» يعد أول من فتح باب التورية لأهل عصره ومن بعدهم بما أودع منها في نظمه ونثره. وقد تأثر به في الولع بالتورية كثيرون من شعراء مصر من أمثال ابن سناء الملك، والسرّاج، والورّاق، والجزار، والحمامي، وابن دانيال، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وجمال الدين بن نباته، وصلاح الدين الصفدي.
__________
(1) هو عبد الرحيم بن علي وزير السلطان صلاح الدين، اشتهر بالقاضي الفاضل، وهو من أئمة الإنشاء وتعرف طريقته في الكتابة بالطريقة الفاضلية وقد تأثر بها وقلّدها من جاء بعده من المنشئين.

وممن اشتهر بالتوسع في استعمال التورية من شعراء الشام شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، ومجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف الذهبي، ومحيي الدين الحموي، وشمس الدين بن العفيف، وعلاء الدين الكندي الشهير بالوداعي، والذي يقال: إنه أشهر من «قفا نبك» في نظم التورية!
ولعل تقي الدين بن حجة الحموي من أكثر رجال البديع المتأخرين اهتماما بالتورية. نقول ذلك لأن ما استشهد به عليها من شعر شعراء البديع بمصر والشام من عصر القاضي الفاضل إلى عصره يمثل في الواقع ربع كتابه «خزانة الأدب» الذي يشتمل على 467 صفحة.
وهو ينبئنا عن سبب اهتمامه بالتورية إلى هذا الحد بأنه كان ينوي بعد الفراغ من تأليف «خزانة الأدب» أن يؤلف كتابا خاصا بالتورية والاستخدام يسميه «كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام» (1).
...
__________
(1) خزانة الأدب ص 277.

وإذا ألقينا نظرة على نشأة هذا النوع من البديع المعنوي فإننا نرى أن المتقدمين لم يحفلوا كثيرا بالتورية. وأن المرء ليحس فيما يلقاه منها في أدبهم أنها كانت تقع لهم عفوا من غير قصد.
ويقال إن المتنبي هو أول من التفت إليها واستخدمها في شعره على نحو ظاهر، ولكن التحقيق يظهر أن شعراء البديع في العصر العباسي الأول والثاني من أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري قد سبقوه إليها.
ثم أخذ الاهتمام بها ابتداء من عصر المتنبي يزداد شيئا فشيئا حتى وصلت إلى عصر القاضي الفاضل فتلقفها وتوسع في استعمالها في شعره ونثره إلى الحد الذي لفت الأنظار إليها. ومن ثم جاراه فيها شعراء مصر والشام خاصة في عصره وبعد عصره، وقد أدى الإعجاب بها والمبالغة في استعمالها والإكثار منها والتكلف فيها إلى إفساد الكثير من شعر المتأخرين وإحالته إلى رياضة ذهنية وحيل لفظية ينطبق عليها قول القائل:
وما مثله إلا كفارغ بندق  خلى من المعنى ولكن يفرقع!
الكتاب: علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة

  

0 Response to "التورية في علم البديع وعلم المعاني"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel