بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

أحوال المسند والمسند إليه ثالثا التقديم والتّأخير

التقديم والتّأخير

من المسلم به أن الكلام يتألف من كلمات أو أجزاء، وليس من الممكن النطق بأجزاء أي كلام دفعة واحدة. من أجل ذلك كان لا بد عند النطق بالكلام من تقديم بعضه وتأخير بعضه الآخر. وليس شيء من أجزاء الكلام في حد ذاته أولى بالتقدم من الآخر، لأن جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ تشترك في درجة الاعتبار، هذا بعد مراعاة ما تجب له الصدارة كألفاظ الشرط والاستفهام.

وعلى هذا فتقديم جزء من الكلام أو تأخيره لا يرد اعتباطا في نظم الكلام وتأليفه، وإنما يكون عملا مقصودا يقتضيه غرض بلاغي أو داع من دواعيها.
وقبل الشروع في بيان هذه الدواعي وتفصيلها ينبغي التنبيه إلى أن ما يدعو بلاغيا إلى تقديم جزء من الكلام هو هو ذاته ما يدعو بلاغيا إلى تأخير الجزء الآخر. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يكون هناك مبرر لاختصاص كل من المسند إليه والمسند بدواع خاصة عند تقديم أحدهما أو تأخيره عن الآخر، لأنه إذا تقدم أحد ركني الجملة تأخر الآخر، فهما متلازمان.

والآن ...وعلى ضوء هذه المقدمة نذكر أن أهم الدواعي والأغراض البلاغية التي توجب التقديم والتأخير في الكلام هي:
1 - التشويق إلى المتأخر إذا كان المتقدم مشعرا بغرابة. نحو قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها  شمس الضحا وأبو إسحق والقمر
فهنا قدم المسند إليه وهو «ثلاثة» واتصف بصفة غريبة تشوق النفس
إلى الخبر المتأخر، وهي «تشرق الدنيا ببهجتها». فإشراق الدنيا أمر يشوق النفس إلى أن تعرف هذه الأشياء الثلاثة التي جعلت الدنيا بحسنها تتألق وتضيء. فإذا عرفت النفس ذلك تمكن الخبر المتأخر فيها واستقر.
ومثله قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه  حيوان مستحدث من جماد
فالمسند إليه قد تقدم أيضا هنا واتصل به ما يدعو إلى العجب ويشعر بالغرابة وهو «حارت البرية فيه»، وهذا أمر يشوق النفس ويثير فضولها إلى معرفة الخبر المتأخر.
2 - تعجيل المسرة أو المساءة للتفاؤل أو التطير:
فالتعجيل بالمسرة نحو: الجائزة الأولى في المسابقة كانت من نصيبك.
ونحو: براءة المتهم حكم بها القاضي، والإفراج عنه تم اليوم.
والتعجيل بالمساءة نحو: الفشل أصيب به العدو، والخسائر في جيشه كبيرة، ونيران الأسلحة المختلفة تطارد فلوله في كل مكان.
3 - كون المتقدم محط الإنكار والتعجب: نحو قوله تعالى: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ فإنما قدم خبر المبتدأ عليه في قوله أَراغِبٌ أَنْتَ ولم يقل «أأنت راغب» وذلك لأهمية المتقدم وشدة العناية به، وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته، وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب عنها. وهذا بخلاف ما لو قال: «أأنت راغب عن آلهتي؟».
ومن أمثلته شعرا قول أبي فراس الحمداني:
أمثلي تقبل الأقوال فيه؟  ومثلك يستمر عليه كذب؟
وقول شاعر آخر:
أمنك اغتياب لمن في غياب  ك يثني عليك ثناء جميلا؟
4 - النص على عموم السلب أو سلب العموم:
فالنص على عموم السلب يعني شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه، ويكون عادة بتقديم أداة من أدوات العموم على أداة نفي نحو:
كل قوي لا يهزم. ففي هذا المثال أداة عموم هي «كل» مقدمة على أداة نفي هي «لا»، والكلام هنا يفيد شمول السلب أو النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه المتقدم، إذ المعنى: «لا يهزم أحد أو أي فرد من الأقوياء»، والسبب في إفادة الكلام شمول النفي هنا أن أداة العموم بهذا الوضع تكون المتسلطة على النفي، العاملة فيه بكليتها، وذلك يقتضي عموم النفي وشموله.
ومن أمثلة ذلك أيضا: من يظلم الناس لا يفلح.
والنص على سلب العموم يكون عادة بتأخير أداة العموم عن أداة النفي. والنفي في سلب العموم أو نفي الشمول ليس عاما شاملا لكل الأفراد، بل يفيد ثبوت الحكم لبعض الأفراد ونفيه عن البعض الآخر، كقول المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه  تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
فالمعنى هنا: أن الإنسان لا يدرك كل أمانيه، وإنما هو يدرك بعضها ويفوته بعضها الآخر.
ومن أمثلته أيضا قول أبي فراس الحمداني:
ما كل ما فوق البسيطة كافيا  فإذا قنعت فكل شيء كاف
وقول عمارة اليمني:
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا  ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
5 - تقوية الحكم وتقريره: وذلك كقولك عن شخص كريم: «هو يعطي الجزيل»، فأنت لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان آخر يعطي القليل، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنهيفعل إعطاء الجزيل. فتقديم المسند إليه «هو» وتكريره في الضمير المستتر في «يعطي» أدى إلى تقوية الحكم وتقريره.
وسبب التقوي على ما ذكره عبد القاهر الجرجاني هو أن الاسم لا يؤتى به مجردا من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه فإذا قلت:
«عبد الله» فقد أشعرت السامع بذلك أنك تريد الحديث عنه، فهذا توطئة له وتقدمة للإعلام به، فإذا جئت بالحديث فقلت: «قام» مثلا دخل على القلب دخول المأنوس به، وذلك لا محالة أشد لثبوته وأنفى للشبهة وأمنع للشك. وجملة الأمر أنه ليس إعلامك بالشيء بغتة مثل الإعلام به بعد التنبيه عليه، لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام.
وعلى ضوء ذلك يتضح الفرق من حيث تقوية الحكم وتقريره بين «هو يعطي الجزيل» و «يعطي الجزيل».
ومن هذا القبيل قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ فهذا أبلغ في تأكيد نفي الإشراك مما لو قيل: والذين بربهم لا يشركون أو لا يشركون بربهم.
ومنه كذلك قول أبي فراس الحمداني مخاطبا سيف الدولة:
ألست وإياك من أسرة  وبيني وبينك قرب النسب؟
فالبيت يشتمل على جملتين تقدم المسند إليه في الأولى وتأخر في الثانية، وليس من سبب لذلك في الحالين إلا تقرير الحكم الذي تضمنته كلتا الجملتين وتقويته.
6 - التخصيص: وهذا يعني أن المسند إليه قد يقدم ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي بشرط أن يكون مسبوقا بحرف نفي نحو: ما أنا قلت هذا، أي: لم أقله ولكنه مقول غيري. فأنت في هذا المثال تنفي وقوع المقول منك، ولكنك لا تنفي وقوعه من غيرك. ولهذا لا يصح: ما أنا قلت هذا ولا غيري. فتقديم المسند إليه «أنا» أفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك.
ومن ذلك قول الشاعر:
وما أنا أسقمت جسمي به  ولا أنا أضرمت في القلب نارا
فسقم الجسم بالحب وإضرام النار في القلب كلاهما ثابت موجود، ولكن قصرهما وتخصيصهما بالمسند إليه المتقدم «أنا» قصد به نفي كون المتكلم هو السبب في سقم جسمه وإضرام النار في قلبه، وإثبات السبب لغيره كالحبيب مثلا.
وكما يتقدم المسند إليه لقصره على المسند الفعل لا يتجاوزه إلى غيره وإن كان الفعل يتعداه إلى غيره، كذلك قد يتقدم المسند ويتأخر المسند إليه، بقصد قصره عليه، نحو قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،* فملك السموات والأرض مختص بكونه لله، أي مقصور عليه ومنحصر فيه.
ومن هذا القبيل قوله تعالى في خمر أهل الجنة: لا فِيها غَوْلٌ، فالغول مقصور على اتصافه بعدم حصوله في خمر الجنة ولكنه يوجد في خمور الدنيا. فتقديم المسند «فيها» يقتضي تفضيل المنفي عنه وهو خمر الجنة على غيرها من خمور الدنيا، أي ليس فيها ما في غيرها من الغول الذي يغتال العقول ويسبب دوار الرأس وثقل الأعضاء.
7 - التنبيه على أن المتقدم خبر لا نعت: وذلك خاص بتقديم الخبر المسند على المبتدأ المسند إليه، نحو قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ،* فالشاهد هنا هو في قوله: «ولكم مستقر» فلو قال «ومستقر لكم» لتوهم ابتداء أن «لكم» نعت وأن خبر المبتدأ سيذكر فيما بعد، وذلك لأن حاجة النكرة إلى النعت أشد من حاجتها إلى الخبر. ولذلك تعين تقديم المسند للتنبيه على أنه خبر لا نعت.
ومن أمثلته شعرا قول المتنبي.
و «فيك» إذا جنى الجاني «أناة»  تظن كرامة وهي احتقار
وقول حسان بن ثابت في مدح الرسول عليه السّلام:
«له همم» لا منتهى لكبارها  وهمته الصغرى أجل من الدهر
«له راحة» لو أن معشار جودها  على البر كان البر أندى من البحر
...

تلك هي الأغراض والدواعي البلاغية التي تقتضي التقديم والتأخير أحيانا بين المسند والمسند إليه.

ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من التقديم يكون مقصورا على تقديم متعلقات الفعل عليه، من مثل المفعول والجار والمجرور والحال والاستثناء وما أشبه ذلك.
فالأصل في العامل أن يقدم على المعمول، فإذا عكس الأمر فقدم المعمول على العامل فإنما يكون ذلك لغرض بلاغي يقتضيه، وفي هذه الحالة يكون التقديم أبلغ من التأخير. وفيما يلي شيء من البيان لذلك.

تقديم متعلقات الفعل عليه:

1 - فمن تقديم المفعول على الفعل قولك: «محمدا أكرمت» والأصل «أكرمت محمدا»، فإن في قولك بالتقديم «محمدا أكرمت» تخصيصا لمحمد بالكرم دون غيره، وذلك بخلاف قولك «أكرمت محمدا»، لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاع الكرم على أي مفعول شئت، بأن تقول:
أكرمت خالدا أو عليا أو غيرهما. فتقديم المفعول على الفعل هنا قصد به اختصاصه به، أي اختصاص محمد دون غيره بالإكرام.
2 - ومن تقديم الجار والمجرور على الفعل قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ،* فإن تقديم الجار والمجرور دل على أن مرجع الأمور ليس إلا لله وحده، على حين لو وردت الآية من غير تقديم وقيل: «ترجع الأمور إلى الله» لاحتمل إيقاع مرجع الأمور إلى غير الله وهذا محال.
3 - ومن تقديم الحال على الفعل كقولك: «مبكرا خرجت إلى عملي»
تخصيصا لحالة التبكير بالخروج دون غيرها من الحالات، وذلك بخلاف قولك: «خرجت إلى عملي مبكرا» لأنك في تقديمك الفعل تكون بالخيار في إيقاعه مقيدا بأي حالة شئت، بأن تقول: خرجت إلى عملي متأخرا أو مسرعا أو مسرورا أو غير ذلك. وكذلك يجري الأمر في بقية متعلقات الفعل.
...

وعلماء البلاغة ومنهم الزمخشري يرون أن تقديم متعلقات الفعل عليه على النحو السابق إنما هو للاختصاص.
ولكن ابن الأثير يرى أن تقديم متعلقات الفعل عليه يكون لواحد من غرضين: أحدهما الاختصاص، والآخر مراعاة نظم الكلام، وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديم وإذا أخر المقدم زال ذلك الحسن، وهذا الوجه عنده أبلغ وأوكد من الاختصاص.
فمن الأول عنده وهو التقديم الذي يكون الغرض البلاغي منه «الاختصاص» قوله تعالى بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فإنه إنما قيل: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ ولم يقل: «بل اعبد الله» لأن المفعول وهو لفظ الجلالة «الله» إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره. ولو قال: «بل اعبد» لجاز وقوع فعل العبادة على أي مفعول شاء.
ومن الثاني وهو التقديم الذي يكون الغرض البلاغي منه مراعاة نظم الكلام قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ويرى الزمخشري أن التقديم في هذا الموضوع قصد به الاختصاص، ولكن ابن الأثير يرى أن المفعول لم يقدم على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام، لأنه لو قال: «نعبدك ونستعينك» لم يكن له ما لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فجاء بعد ذلك قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون.
ولو قال: «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان.
ومما ورد فيه التقديم مراعاة لنظم الكلام أيضا قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (1)، فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص، وإنما هو للفضلية السجعية.
ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن مما لو قيل:
«خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم».
ولهذا النوع من التقديم نظائر كثيرة في القرآن منها أيضا قوله تعالى:
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ (2) الْقَدِيمِ، فتقديم المفعول «القمر» على الفعل هنا ليس من باب الاختصاص، وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام، ولو أنه قال: «وقدرنا القمر منازل» لما كان بتلك الصورة في الحسن.
ومنه كذلك قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، فالغرض البلاغي من وراء تقديم مفعول كل من الفعلين السابقين عليه هو مراعاة حسن النظم السجعي.
__________
(1) صلوه بفتح الصاد وتشديد اللام: أدخلوه فيها.
(2) العرجون بضم العين: العود الغليظ المتصل بالنخلة وفي آخره عناقيد البلح، فإذا قطع منه شماريخ البلح يبقى منه جزء على النخلة أعوج يابسا، وهذا هو حال القمر في أول الشهر وآخره.
...

وهناك نوع آخر من التقديم لا يرجع إلى تقديم أحد ركني الإسناد على الآخر، ولا إلى تقديم أحد متعلقات الفعل عليه، وإنما هو مختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك. وهذا النوع من التقديم مما لا يحصره حد ولا ينتهي إليه، وهو يتمثل في صور شتى منها:
1 - تقديم السبب على المسبب: ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فهنا قدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب، وأسرع لوقوع الإجابة.
ولو قال: «إياك نستعين وإياك نعبد» لكان جائزا، ألا أنه لا يسد ذلك المسد، ولا يقع ذلك الموقع. وعلى نحو منه قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً. فقدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا، لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس. فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس، لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.
2 - تقديم الأكثر على الأقل: كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ.
وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته وأن معظم الخلق عليه، ثم أتى بعده بالمقتصدين، لأنهم قليل بالإضافة إليه، ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل، أعني من المقتصدين.
وهكذا قدم الأكثر وبعده الأوسط ثم ذكر الأقل آخرا، ولو عكست القضية لكان المعنى أيضا واقعا في موقعه، لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل فالأفضل.
وضابط هذا النوع هو أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختص بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكر كهذه الآية، فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضل، والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرة. فعلى هذا يقاس ما يأتي من الأشباه والنظائر.
ومن هذا الجنس قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.
فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين، إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي، ثم ذكر الماشي على رجلين وقدمه على الماشي على أربع، لأنه دل على القدرة أيضا حيث كثرت آلات المشي في الأربع. وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب (1).
__________
(1) انظر المثل السائر لابن الأثير (ص 180 - 186).
...
الكتاب: علم المعاني
المؤلف:عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر:دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة



0 Response to "أحوال المسند والمسند إليه ثالثا التقديم والتّأخير"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel