بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

المحسنات البديعية المعنوية المطابقة


فنون علم البديع

عرفنا من المقدمة السابقة في نشأة البديع وتطوره أن عبد الله بن المعتز هو أول من قام بمحاولة علمية جادة في سبيل تأسيس علم البديع وتحديد مباحثه التي كانت من قبل مختلطة بمباحث علم المعاني وعلم البيان.
وتتمثل محاولته هذه في كتاب «البديع» الذي ألّفه وضمّنه ثمانية عشر فنا من فنون البديع. وقد مهدت محاولته السبيل أمام البلاغيين من بعده فتأثروها وأفادوا منها في تطوير هذا العلم واستكمال مباحثه وقضاياه.
فقدامة بن جعفر وهو من معاصري ابن المعتز أولى البديع اهتمامه وزاد فيه تسعة أنواع جديدة، وأبو هلال العسكري اعتمد ما أتى به ابن المعتز وقدامة من فنون البديع وأضاف إليها حتى بلغت عنده سبعة وثلاثين نوعا، ثم جاء ابن رشيق القيرواني فزاد على من تقدموه تسعة أنواع لم يرد لها ذكر عندهم.
وهكذا أخذت فنون البديع تنمو وتتكاثر على تعاقب الأجيال والعصور حتى بلغت في القرن الثامن الهجري عند الشاعر صفي الدين الحلي مائة وخمسة وأربعين محسنا بديعيا.

وهذه المحسنات يقصد بها تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة بخلوها عن التعقيد المعنوي.
والمحسنات البديعية ضربان: معنوي يرجع إلى تحسين المعنى أولا وبالذات، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضا.
وضرب لفظي يرجع إلى تحسين اللفظ أصلا، وإن تبع ذلك تحسين المعنى لأن المعنى (إن) عبّر عنه بلفظ حسن استتبع ذلك زيادة في تحسين المعنى.
وليس من غرضنا هنا التوسع في دراسة المحسنات البديعية إلى حد الإلمام بها جميعها، وإنما الغرض هو التركيز على أهم هذه المحسنات للتعرف عليها وبيان أثرها في تحسين الكلام لفظا ومعنى.
ولما كانت المعاني هي الأصل والألفاظ توابع وقوالب لها، فإننا نبدأ بدراسة المحسنات المعنوية.

المحسنات البديعية المعنوية
المطابقة
ويقال لها أيضا: التطبيق، والطباق، والتضاد.
والمطابقة في أصل الوضع اللغوي أن يضع البعير رجله موضع يده، فإذا فعل ذلك قيل: طابق البعير.
وقال الأصمعي: المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع. وقال الخليل بن أحمد: طابقت بين الشيئين، إذا جمعت بينهما على حد واحد.
وليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية أدنى مناسبة، ذلك لأن المطابقة أو الطباق في اصطلاح رجال البديع هي: الجمع بين الضدين أو بين الشيء وضده في كلام أو بيت شعر. كالجمع بين اسمين متضادين من مثل: النهار والليل، والبياض والسواد، والحسن والقبح، والشجاعة والجبن، وكالجمع بين فعلين متضادين مثل: يظهر ويبطن، ويسعد ويشقى، ويعز ويذل، ويحيي ويميت. وكذلك كالجمع بين حرفين متضادين، نحو قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، فالجمع بين حرفي الجر «اللام وعلى» مطابقة، لأن في «اللام» معنى المنفعة وفي «على» معنى المضرة، وهما متضادان، ومثله قول الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى  وأخلص منه لا علي ولا ليا
وقد تكون المطابقة بالجمع بين نوعين مختلفين كقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فإن أحد المتضادين اسم وهو «ميتا» والآخر فعل وهو «أحييناه».
وقال زكي الدين بن أبي الأصبع المصري: المطابقة ضربان: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة. وضرب يأتي بألفاظ المجاز.
1 - فالضرب الذي يأتي بألفاظ الحقيقة هو ما يسمى المطابقة أو الطباق، ومن أمثلته قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا، وقوله تعالى أيضا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، وقوله: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ.
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة للكبر، ومن الحياة للموت، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الحياة مستعتب (1)، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار».
ومن شواهد المطابقة الحقيقية شعرا قول الحماسي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد  لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقول آخر:
لئن ساءني إن نلتني بمساءة  لقد سرني أني خطرت ببالك
__________
(1) استرضاء، لأن الأعمال بطلت وانقضى زمانها، وقيل: رجوع عن الخطأ والذنب وطلب للرضا.

2 - والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز يسميه قدامة بن جعفر «التكافؤ» ومنه قول الشاعر:
حلو الشمائل وهو مر باسل  يحمي الدمار صبيحة الإرهاق
فقوله «حلو ومر» يجري مجرى الاستعارة، إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق.
ومنه أيضا قول الشاعر:
إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب  تحرك يقظان التراب ونائمه
فالمطابقة هي بين «اليقظان والنائم»، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز. وهذا هو «التكافؤ» عند قدامة وابن أبي الأصبع.
أما المطابقة عند قدامة ومن اتبعه فهي اجتماع المعنيين المختلفين في لفظة واحدة مكررة، كقول زياد الأعجم:
ونبئتهم يستنصرون بكاهل  وللؤم فيهم كاهل وسنام
فاللفظة المكررة هنا هي «كاهل» ومعناها في الشطر الأول من البيت «من يعتمد عليه في الملمات، يقال: فلان كاهل بني فلان أي معتمدهم في الملمات وسندهم في المهمات». وهي في الشطر الثاني: مقدّم أعلى الظهر مما يلي العنق.
...

أنواع المطابقة:
والمطابقة ثلاثة أنواع:
مطابقة الإيجاب.
مطابقة السلب.
وإيهام التضاد.
1 - فمطابقة الإيجاب: هي ما صرّح فيها بإظهار الضدين، أو هي ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا.
ومن أمثلتها بالإضافة إلى الأمثلة السابقة للمطابقة التي تأتي بلفظ الحقيقة قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وقوله أيضا:
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ.
ومنه أحاديث الرسول: «أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك» وقال: «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة».
ومنه شعرا قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا  كجلمود صخر حطه السيل من عل
وقول مسافع:
أبعد بني أمي أسرّ بمقبل  من العيش أو آسى على أثر مدبر؟
أولاك بنو خير وشر كليهما  وأبناء معروف ألّم ومنكر
ومنه من الأقوال المأثورة: «غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله» و «كدر الجماعة خير من صفو الفرقة».
2 - ومطابقة السلب: وهي ما لم يصرح فيها بإظهار الضدين، أو هي ما اختلف فيها الضدان إيجابا وسلبا، نحو قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «يعلمون ولا يعلمون» وهي حاصلة بإيجاب العلم ونفيه، لأنهما ضدان.
ومن مطابقة السلب أيضا قول امرئ القيس:
جزعت ولم أجزع من البين مجزعا  وعزّيت قلبي بالكواعب مولعا
فالمطابقة هي في الجمع بين «جزعت ولم أجزع» وهي حاصلة بإيجاب الجزع ونفيه.
ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة  فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد  فكأنهم رزقوا وما رزقوا
3 - إيهام التضاد: وهو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد مع أنه ليس بضد، كقول الشاعر:
يبدي وشاحا أبيضا من سيبه  والجو قد لبس الوشاح الأغبرا
فإن «الأغبر» ليس بضد «الأبيض» وإنما يوهم بلفظه أنه ضد. ومثله قول دعبل الخزاعي:
لا تعجبي يا سلم من رجل  ضحك المشيب برأسه فيكى
فإن «الضحك» هنا من جهة المعنى ليس بضد «البكاء»، لأنه كناية عن كثرة الشيب، ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة.
ومنه قول قريط بن أنيف:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة  ومن إساءة أهل السوء إحسانا
«فالظلم» ليس بضد «المغفرة» وإنما يوهم بلفظه أنه ضد.
وقول شاعر آخر:
وأخذت أطرار الكلام فلم تدع  شتما يضر ولا مديحا ينفع
فضد المديح هو الهجاء وليس الشتم وإن كان قريبا من معناه، ولهذا فاستعماله ضدا للمديح هو من قبيل إيهام التضاد.
...

ظهور التضاد وخفاؤه:
والتضاد بين المعنيين قد يكون ظاهرا كما في الأمثلة السابقة، وقد يكون خفيا كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (1) فإدخال النار ليس ضد الإغراق في المعنى، ولكنه يستلزم ما يقابله وهو الإحراق؛ فإن من دخل النار احترق، والاحتراق ضد الغرق.
__________
(1) مما خطاياهم: من أجل خطاياهم وبسببها.

ومثله أيضا قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «أشداء ورحماء» فلفظة «رحماء» ليست ضدا في المعنى «لأشداء» ولكن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة، لأن من رحم لان قلبه ورق. ومن هذه الناحية الخفية صحت المطابقة.
ومنه شعرا قول الحماسي:
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى  وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (1)
ففي قوله «تتابع لي غنى» معنى الكثرة التي هي ضد القلة.
__________
(1) الرفد: العطاء.

أما قول أبي الطيب المتنبي:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها  سرور محب أو إساءة مجرم؟
فهو من المطابقة الفاسدة، لأن المجرم ليس بضد في المعنى للمحب بوجه ما، وليس للمحب ضد إلا المبغض.

بلاغة المطابقة:
وبلاغة المطابقة لا يكفي فيها الإتيان بمجرد لفظين متضادين أو متقابلين معنى، كقول الشاعر:
ولقد نزلت من الملوك بماجد  فقر الرجال إليه مفتاح الغنى
فمثل هذه المطابقة لا طائل من ورائها لأن مطابقة الضد بالضد على هذا النحو أمر سهل. وإنما جمال المطابقة في مثل هذه الحالة أن ترشح بنوع من أنواع البديع يشاركها في البهجة والرونق، كقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. ففي العطف بقوله تعالى:
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال
العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده. وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الله. فهنا اجتمعت المطابقة الحقيقية ومبالغة التكميل.
ومثله قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا  كجلمود صخر حطه السيل من عل
فالمطابقة في الإقبال والإدبار، ولكنه لما قال «معا» زادها تكميلا، فإن المراد بها قرب الحركة وسرعتها في حالتي الإقبال والإدبار، وحالة الكر والفر. فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الوقع الحسن في النفس.
ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد (1) البديعي، وبهذا اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد.
وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال:
برغم شبيب فارق السيف كفه  وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه:  رفيقك قيسيّ وأنت يماني (2)
__________
(1) الاستطراد البديعي أن يكون الشاعر في غرض من أغراض الشعر فيوهم أنه مستمر فيه ثم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما، على أن يكون المستطرد به آخر الكلام.
(2) هو شبيب الخارجي، خرج على كافور وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها. كان من قيس وبين قيس واليمن عداوات وحروب قديمة، والسيف الجيد ينسب إلى اليمن فيقال له «يماني»، ومراد المتنبي هنا أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه، فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه. انظر المثل السائر ص 258.

فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «قيسي ويماني» وقيسي منسوب إلى قيس من عدنان ويماني منسوب إلى اليمن من قحطان وكان بينهما شقاق وتنازع واختلاف، ومن هنا أتى التضاد بين «قيسي ويماني». والتورية في لفظة «يماني» لأن الشاعر يعني أن كف شبيب وسيفه متنافران فلا يجتمعان لأن شبيبا كان قيسيا والسيف يقال له: «يماني» فورّي به عن الرجل المنسوب إلى اليمن.
وقد أكثر الشعراء من استخدام المطابقة المجردة والارتفاع بجمالها وبلاغتها بما يضمونه إليها أو يكملونها أو يكسونها به من فنون البديع والبيان كالجناس واللف والنشر والتورية والتشبيه والاستعارة والتضمين.

الكتاب: علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
المصدر : المكتبة الشاملة


0 Response to "المحسنات البديعية المعنوية المطابقة"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel